وقالَ بعضُ السَّلفِ: لو أنَّ رجلًا سَمعَ بأحدٍ أطوعَ للهِ منهُ؛ كانَ يَنْبَغي لهُ أنْ يَحْزُنَهُ ذلكَ.
وقالَ غيرُهُ: لو أن رجلًا سَمعَ برجلٍ أطوعَ للهِ منهُ فانْصَدَعَ قلبُهُ فماتَ؛ لم يَكُنْ ذلكَ بعجبٍ.
قالَ رجلٌ لمالِكِ بن دينارٍ: رَأيْتُ في النَّومِ مناديًا يُنادي: أيُّها النَّاسُ! الرَّحيلَ الرَّحيلَ، فما رَأيْتُ أحدًا يَرْتَحِلُ إلَّا مُحَمَّدَ بنَ واسِعٍ. فصاحَ مالِكٌ وغُشِيَ عليهِ.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: ١٠ - ١٢].
قالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ في حجَّةٍ حَجَّها عندَ دفعِ النَّاسِ مِن عرفهَ: ليسَ السَّابقُ اليومَ مَن سَبَقَ بهِ بعيرُهُ، إنَّما السَّابقُ مَن غُفِرَ لهُ.
كانَ رأْسَ السَّابقينَ إلى الخيراتِ مِن هذهِ الأُمَّةِ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ. قالَ عُمَرُ: ما اسْتبَقْنا إلى شيءٍ مِن الخيرِ إلَّا سَبَقَـ[ــنا] أبو بَكْرٍ، وكانَ سبَّاقًا بالخيراتِ.
ثمَّ كانَ السَّابقُ بعدَهُ إلى الخيراتِ عُمَرُ. وفي آخرِ حجَّةٍ حجَّها عُمَرُ جاءَ رجلٌ لا يُعْرَفُ، كانوا يَرَوْنَهُ مِن الجنِّ، فرَثاهُ بأبياتٍ منها:
فَمَنْ يَسْعَ أوْ يَرْكَبْ جَناحَيْ نَعامَةٍ … لِيُدْرِكَ ما قَدَّمْتَ بِالأمْسِ يُسْبَقِ (١)
صاحبُ الهمَّةِ العاليةِ والنَّفسِ الشَّريفةِ التَّوَاقةِ لا يَرْضى بالأشياءِ الدَّنيَّةِ الفانيةِ، وإنَّما همَّتُهُ المسابقةُ إلى الدَّرجاتِ الباقيةِ الزَّاكيةِ التي لا تَفْنى، ولا يَرْجِعُ عن مطلوبِهِ ولو تَلِفَتْ نفسُهُ في طلبِهِ. ومَن كانَ في اللهِ تلفُه؛ كانَ على اللهِ خلفُه.
قيلَ لبعضِ المجتهدينَ في الطاعاتِ: لمَ تُعَذِّبُ هذا الجسدَ؟ قالَ: كرامتَهُ أُريدُ.
وَإذا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا … تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ
قالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ: إن لي نفسًا توَّاقةً، ما نالَتْ شيئًا إلَّا تاقَتْ إلى ما هوَ أفضلُ منهُ، وإنَّها لمَّا نالَتْ هذهِ المنزلةَ (يَعْني: الخلافةَ) وليسَ في الدُّنيا منزلةٌ أعلى
(١) اطّلع الغيب؟! أفكان عنده علم بموته حتّى يرثيه؟!