للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والمرادُ بهذا أنَّ للهِ حكمةً في إلقاءِ الغفلةِ على قلوبِ عبادِهِ أحيانًا حتَّى يَقَعَ مِنهم بعضُ الذُّنوبِ؛ فإنَّهُ لوِ اسْتَمَرَّ [تْ] لهُمُ اليقظةُ التي يكونونَ عليها في حالِ سماعِ الذِّكرِ؛ لَما وَقَعَ منهُم ذنبٌ. وفي إيقاعِهِم في الذُّنوبِ أحيانًا فائدتانِ عظيمتانِ (١):

إحداهما: اعترافُ المذنبينَ بذنوبِهِم وتقصيرِهِم في حقِّ مولاهُم وتنكيسُ رؤوسِ عُجْبِهِم، وهذا أحَبُّ إلى اللهِ مِن فعلِ كثيرٍ مِن الطَّاعاتِ؛ فإنَّ دوامَ الطَّاعاتِ قدْ يوجِبُ لصاحبِها العُجْبَ.

وفي الحديثِ: "لو لمْ تُذْنِبوا؛ لَخَشِيتُ عليكُم ما هوَ أشدُّ مِن ذلكَ؛ العُجْبَ" (٢).

قالَ الحَسَن: لو أن ابنَ آدمَ كلَّما قالَ أصابَ وكلَّما عَمِلَ أحْسَنَ؛ أوْشَكَ أنْ يُجَنَّ مِن العُجْبِ.

قالَ بعضُهُم: ذنبٌ أفْتَقِرُ بهِ إليهِ أحَبُّ إليَّ مِن طاعةٍ أدلُّ بها عليهِ.

أنينُ المذنبينَ أحَبُّ إليهِ مِن زَجَلِ المسبِّحينَ (٣)؛ لأنَّ زَجَلَ المسبِّحينَ ربَّما شابَهُ الافتخارُ، وأنينُ المذنبينَ يَزِينُهُ الانكسارُ والافتقارُ.


(١) فصّل ابن القيّم في الحكم الإلهيّة في قضاء المعصية على العباد فأتى بفوائد فذّة وبدائع مطربة.
فانظرها في: "مدارج السالكين" (١/ ٢٧٩) و "مفتاح دار السعادة" (١/ ٧٧).
(٢) (حسن). رواه: البزار (٣٦٣٣ كشف)، والعقيلي (٢/ ١٥٩)، وابن عديّ في "الكامل" (٣/ ١١٥٢)، والقضاعي في "الشهاب" (١٤٤٧)، والبيهقي في "الشعب" (٧٢٥٥)؛ من طريقين قويتين، عن سلام بن أبي الصهباء، عن ثابت، عن أنس … رفعه.
قال البزار: "لا نعلم رواه عن ثابت إلّا سلّام، وهو مشهور". وقال العقيلي: "لا يتابع عليه عن ثابت، وقد روي بغير هذا الإسناد بإسناد صالح". وقال المنذري والهيثمي: "إسناده جيد". قلت: هو كذلك إن كان سلّام بن أبي الصهباء هو سلّام بن سليمان المزني المترجم في "التهذيب"، وهو وجيه جدًّا. وإن كان غيره؛ فحديثه لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد. ولهذا قال الذهبي عقبه في "الميزان" (٢/ ١٨٠): "ما أحسنه من حديث لو صحّ". وتعقّبه الألباني في "الصحيحة" (٦٥٨) بقوله: "هو حسن على الأقل بشاهده الآتي وغيره؛ فقد أخرجه أبو الحسن القزويني في "الأمالي" (١٢/ ١) عن كثير بن يحيى، ثنا أبي، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد … مرفوعًا. وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد، رجاله ثقات، غير يحيى والد كثير، وهو يحيى بن كثير أبو النضر صاحب البصري، قال الحافظ: ضعيف".
وجملة القول أنه: إن كان ابن أبي الصهباء هو سلّام بن سليمان المزني؛ فالحديث فوق الحسن، وإن كانا اثنين؛ فالحديث حسن بشاهده، وقد مال إلى تقويته العقيلي والمنذري والهيثمي والمناوي والألباني.
(٣) زجل المسبّحين: أصواتهم عند التسبيح.

<<  <   >  >>