للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وَقَفَ بعضُ العارفينَ [الخائفينَ]، بعرفةَ، فمَنَعَهُ الحياءُ مِن الدُّعاءِ، فقيلَ لهُ: لمَ لا تَدْعو؟ فقالَ: ثَمَّ وحشةٌ. فقيلَ لهُ: هذا يومُ العفوِ عنِ الذُّنوبِ. فبَسَطَ يديهِ ووَقَعَ ميتًا.

حَدا بِها الحادي إلى نُعْمانِ … فَاسْتَذْكَرَتْ عَهْدًا لَها بِالبانِ

فَسالَتِ الرُّوحُ مِنَ الأجفانِ … تَشَوُّقًا إلى الزَّمانِ الفاني

[غيرُهُ]:

قَدْ لَجَّ بِيَ الغَرامُ حَتَّى قالوا … قَدْ جُنَّ بِهِـ[ـمْ]، وهكَذا البَلْبالُ (١)

المَوْتُ إذْ أرْضَيْتُهُ سَلْسالُ … في مِثْلِ هَواكَ تَرْخُصُ الآجالُ

وَقَفَ بعضُ الخائفينَ بعرفاتٍ وقالَ: إلهي! النَّاسُ يَتَقَرَّبونَ إليكَ بالبُدْنِ وأنا أتَقَرَّبُ إليكَ بنفسي، ثمَّ خَرَّ ميتًا (٢).

لِلنَّاسِ حَجٌّ وَلي حَجٌّ إلى سَكَني … تُهْدَى الأضاحي وَأُهْدي مُهْجَتي وَدَمي

ما يَرْضى المحبُّونَ لمحبوبِهِم بإراقةِ دماءِ الهدايا، وإنَّما يُهْدونَ لهُ الأرواحَ.

أرى مَوْسِمَ الأعْيادِ أُنْسَ الأجانِبِ … وَما العيدُ عِنْدي غَيْرَ قُرْبِ الحَبائِبِ

إذا قَرَّبوا بُدْنًا فَقُرْبانِيَ الهَوى … فَإنْ قَبِلوا قَلْبي وَإلاَّ فَقالَبي

وَما بِدَمِ الأنْعامِ أقْضي حُقوقَهُمْ … وَلكِنْ بِما بَيْنَ الحَشا وَالتَّرائِبِ

كانَ أبو عُبَيْدَةَ الخَوَّاصُ قد غَلَبَ عليهِ الشَّوقُ والقلقُ حتَّى يَضْرِبَ على صدرِهِ في الطُّرقِ ويَقولَ: واشوقاه إلى مَن يَراني ولا أراه. وكانَ بعدَما كَبُرَ يَأْخُذُ بلحيتِهِ ويَقولُ: يا ربِّ! قد كَبُرْتُ فأعْتِقْني. ورُئِيَ بعرفةَ وقد وَلِعَ بهِ الولهُ وهوَ يَقولُ:

سُبْحانَ مَنْ لَوْ سَجَدْنا بِالعُيونِ لَهُ … عَلى حُمَى الشَّوْكِ (٣) وَالمُحْمَى مِنَ الإبَرِ

لَمْ نَبْلُغِ العُشْرَ مِنْ مِعْشارِ نِعْمَتِهِ … وَلا العُشَيْرَ وَلا عُشْرًا مِن العُشَرِ

هُوَ الرَّفيعُ فَلا الأبْصارُ تُدْرِكُهُ … سُبْحانَهُ مِنْ مَليكٍ نافِذِ القَدَرِ


(١) البلبال: شدّة الهمّ وكثرة الوساوس.
(٢) من مات في غير ساحات الجهاد فما تقرّب بنفسه بل انقضى أجله! إنّما يتقرّب العبد بنفسه عندما ينحر شهواتها وأغراضها ويقول: لبّيك لبّيك، سمعت وأطعت، في منشطي ومكرهي وأثرة علي.
(٣) حُمَى الشوك: إبره الحادّة. ووقع في م: "جنى الشوك". وفي ط: "شبا الشوك".

<<  <   >  >>