للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واستحبابِهِ، وقد رَخَّصَ فيهِ جماعةٌ مِن السَّلفِ وكَرِهَهُ آخرونَ، وحَكى بعضُ أصحابِنا عن أحْمَدَ في ذلكَ روايتينِ، ولا يَصِحُّ؛ فإنَّ أحْمَدَ إنَّما نَصَّ على كراهةِ تمنِّي الموتِ لضررِ الدُّنيا وعلى جوازِ تمنِّيهِ خشيةَ الفتنةِ في الدِّينِ. وربَّما أدْخَلَ بعضُهُم في هذا الاختلافِ القسمَ الذي قبلَهُ، وفي ذلكَ نظرٌ.

واسْتَدَلَّ مَن كَرِهَهُ بعمومِ النَّهيِ عنهُ، كما في حديثِ جابرٍ الذي ذَكَرْناهُ، وفي معناهُ أحاديثُ أُخرُ يَأْتي بعضُها إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

• وقد عُلِّلَ النَّهيُ عن تمنِّي الموتِ في حديثِ جابرٍ بعلَّتينِ:

• إحداهُما: أنَّ هولَ المطَّلَعِ شديدٌ، وهولُ المطَّلعِ هوَ ما يُكْشَفُ للميِّتِ عندَ حضورِ الموتِ مِن الأهوالِ التي لا عهدَ لهُ بشيءٍ منها في الدُّنيا مِن رؤيةِ الملائكةِ ورؤيةِ أعمالِهِ مِن خيرٍ أو شرِّ وما يُبَشَّرُ بهِ عندَ ذلكَ مِن الجنَّةِ والنَّارِ، هذا مع ما يَلْقاهُ مِن شدَّةِ الموتِ وكربِهِ وغصصِهِ.

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: "إذا حُمِلَتِ الجنازةُ وكانَتْ صالحةً؛ قالَتْ: قَدِّموني قَدِّموني، وإنْ كانَتْ غيرَ ذلكَ؛ قالَتْ: يا ويلَها! أينَ تَذْهَبونَ بها؟ يَسْمَعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلَّا الإنسانَ، ولو سَمِعَها الإنسانُ لَصَعِقَ" (١).

قالَ الحَسَنُ: لو عَلِمَ ابنُ ادَمَ أن لهُ في الموتِ راحةً وفرحًا؛ لَشَقَّ عليهِ أنْ يَأْتِيَهُ الموتُ؛ لِما يَعْلَمُ مِن فظاعتِهِ وشدَّتِهِ وهولهِ، فكيفَ وهوَ لا يَعْلَمُ ما لهُ في الموتِ مِن نعيمٍ دائمٍ أو عذابٍ مقيمٍ (٢)؟!

بَكى النَّخَعِيُّ عندَ احتضارِهِ وقالَ: أنْتَظِرُ ملكَ الموتِ لا أدْري يُبَشِّرُني بالجنَّةِ أوِ النَّارِ.

فالمتمنِّي للموتِ كأنَّهُ يَسْتَعْجِلُ حلولَ البلاءِ، وإنَّما أُمِرْنا بسؤالِ العافيةِ.

وسَمعَ ابنُ عُمَرَ رجلًا يَتَمَنَّى الموتَ، فقالَ: لا تَتَمَنَّ الموتَ؛ فإنَّكَ ميِّتٌ، ولكنْ


(١) رواه البخاري (٢٣ - الجنائز، ٥٠ - حمل الرجال الجنازة، ٣/ ١٨١/ ١٣١٤) عن أبي سعيد.
(٢) وهذا والله قول ورثة الأنبياء، وبه وبما بعده يتبيّن لك بطلان دعوى من قال "ما يكره الموت إلّا مريب"، كما بيّنته (ص ٦٥٠).

<<  <   >  >>