مستوحشٌ، بينَهُ وبينَ مولاهُ وحشةُ الذُّنوبِ، فهوَ يَكْرَهُ لقاءَ ربِّهِ، ولا بدَّ لهُ منهُ.
قالَ ذو النُّونِ: كلُّ مطيعٍ مستأْنسٌ، وكلُّ عاصٍ مستوحشٌ.
وفي هذا يَقولُ بعضُهُم:
أمُسْتَوْحِشٌ أنْتَ مِمَّا جَنَيْتَ … فَأحْسِنْ إذا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
قالَ أبو بَكْرٍ الصَدِّيقُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما في وصيَّتِهِ لهُ عندَ موتِهِ: إنْ حَفِظْتَ وصيَّتي؛ لمْ يكُنْ غائبٌ أحبَّ إليكَ مِن الموتِ ولا بدَّ لكَ منهُ، وإنْ ضَيَّعْتَها؛ لم يَكُنْ غائبٌ أكرَهَ إليكَ مِن الموتِ ولنْ تُعْجِزَهُ (١).
قالَ أبو حازِمٍ: كلُّ عملٍ تَكْرَهُ الموتَ مِن أجلِهِ فاتْرُكْهُ ثمَّ لا يَضُرُّكَ متى مُتَّ.
العاصي يَفِرُّ مِن الموتِ لكراهيةِ لقاءِ اللهِ، وأينَ يَفِرُّ مَن هوَ في قبضةِ مَن يَطْلُبُهُ؟!
أيْنَ المَفَرُّ وَالإلهُ الطَّالِبُ … وَالمُجْرِمُ المَغْلوبُ لَيْسَ الغالِبُ
سُئِلَ أبو حازِمٍ: كيفَ القدومُ على اللهِ؟ قالَ: أمَّا الطَّائعُ؛ فكقدومِ الغائبِ على أهلِهِ المشتاقينَ إليهِ، وأمَّا العاصي؛ فكقدومِ الآبقِ على سيِّدهِ الغضبانِ.
رُئِيَ بعضُ الصَّالحينَ في النَّومِ، فقيلَ لهُ: ما فَعَلَ اللهُ بكَ؟ قالَ: خيرًا، لمْ يُرَ مثلُ الكريمِ إذا حَلَّ بهِ المطيعُ.
الدُّنيا كلُّها شهرُ صيامِ المتَّقينَ، وعيدُ فطرِهِم يومَ لقاءِ ربِّهِم. كما قيلَ:
وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِيَ كُلِّها … وَيَوْمَ لِقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي
• ومنها: تمنِّي الموتِ على غيرِ الوجوهِ المتقدِّمةِ. فقدِ اخْتَلَفَ العلماءُ في كراهتِهِ
(١) زاد في حاشية خ هنا: "قال في "الآداب الكبرى": لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عمر رضي الله عنهما فقال: يا عمر! إن وليت على الناس؛ فاتّق الله والزم الحقّ؛ فإنّما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الحقّ في الدنيا وثقله عليهم، وحقّ لميزان إذا وضع فيه الحقّ غدًا أن يكون ثقيلًا، وإنّما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحقّ لميزان وضع فيه الباطل أن يكون خفيفًا. واعلم أنّ لله عملًا بالليل لا يقبله بالنهار وعملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنّه لا يقبل نافلة حتّى تؤدّى الفريضة. وإن الله عزّ وجلّ ذكر أهل الجنّة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيّئاتهم فإذا ذكرتهم قلت إنّي لخائف أن لا ألحق بهم، وإنّ الله ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم وردّ عليهم حسنها فإذا ذكرتهم قلت إنّي لخائف أن أكون مع هؤلاء، وإن الله عزّ وجلّ ذكر آية الرحمة مع آية العذاب ليكون المؤمن راهبًا راغبًا لا يتمنّى على الله ولا يقنط من رحمته. فإن أنت حفظت وصيّتي … إلى آخر ما ذكره في الأصل" اهـ.