للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكذلكَ مَن أخَذَ الدُّنيا مِن غيرِ حقِّها ووَضَعَها في غيرِ وجهِها (١): إمَّا أنْ يَقْتُلَهُ ذلكَ فيَموتَ بهِ قلبُهُ ودينُهُ - وهوَ مَن ماتَ على ذلكَ مِن غيرِ توبةٍ منهُ وإصلاحِ حالٍ - فيَسْتَحِقَّ النَّارَ بعملِهِ. قالَ تَعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: ١٢]. وهذا هوَ الميِّتُ حقيقةً؛ فإنَّ الميتَ مَن ماتَ قلبُهُ، كما قيلَ:

لَيْسَ مَنْ ماتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍ … إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحْياءِ

وإمَّا أنْ يُقارِبَ موتُهُ ثمَّ يُعافى، وهوَ مَن أفاقَ مِن هذهِ السَّكرةِ وتابَ وأصْلَحَ عملَهُ قبلَ موتِهِ.

وقد قالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ في كلامِهِ المشهورِ في أقسامِ حملةِ العلمِ: أو منهومٌ باللذَّاتِ سلسُ القيادِ للشَّهواتِ، أو مغرًى بجمعِ الأموالِ والادِّخارِ، ولَيْسا مِن رعاةِ الدِّينِ، أقربُ شبهًا بهِمُ الأنعامُ السَّارحةُ.

وفي الأبياتِ المشهورةِ التي كانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ يُنْشِدُها كثيرًا (٢):

نَهارُكَ يا مَغْرورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ … وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدى لَكَ لازِمُ

[تُسَرُّ بِما يَفْنى وَتَفْرَحُ بِالمنى … كَما سُرَّ بِاللَّذاتِ في النَّومِ حالِمُ] (٣)

وَتَتْعَبُ فيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ … كَذلِكَ في الدُّنْيا تَعيشُ البَهائِمُ

• وأمَّا استثناؤهُ - صلى الله عليه وسلم - مِن ذلكَ آكلةَ الخضرِ؛ فمرادُهُ بذلكَ مثلُ المقتصدِ الذي يَأْخُذُ مِن الدُّنيا بحقِّها مقدارَ حاجتِهِ، فإذا نَفِدَ واحْتاجَ (٤)؛ عادَ إلى الأخذِ منها قدرَ الحاجةِ بحقِّهِ.

وآكلةُ الخضرِ دُوَيْبَّةٌ، تَأْكُلُ مِن الخضرِ بقدرِ حاجتِها إذا احْتاجَتْ إلى الأكلِ ثمَّ تَصْرِفُهُ عنها، فتَسْتَقْبِلُ عينَ الشَّمسِ فتَصْرِفُ بذلكَ ما في بطنِها وتُخْرِجُ منهُ (٥) ما يُؤْذيها مِن الفضلاتِ.


(١) في خ و م: "ووضعها في غير حقّها"، والأولى ما أثبتّه من ن و ط.
(٢) في خ: "التي كان ينشدها عمر بن عبد العزيز كثيرًا"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.
(٣) ليس في خ و م و ن، استفدته من ط استكمالًا للشاهد.
(٤) في خ: "فإذا فقد واحتاج"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.
(٥) في خ: "وتخرج منها"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

<<  <   >  >>