للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحمامِ النَّوحَ على منابرِ الدَّوحِ هَيَّجَ المستهامَ نوحُهُ وتغريدُه، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: ١٩].

• وا عجبًا للمتقلِّبِ بينَ مشاهدةِ حِكَمِهِ وتناولِ نعمِهِ ثمَّ لا يَشْكُرُ نعمَهُ ولا يُبْصِرُ حِكَمَهُ! وأعجبُ مِن ذلكَ مَن تَراكَمَ عليهِ الجهلُ بظلمتِهِ فعَصى المنعمَ بنعمتِهِ.

هذا عودُ شجرِ الكرمِ يَكونُ يابسًا طولَ الشِّتاءِ، ثمَّ إذا جاءَ الرَّبيعُ دَبَّ فيهِ الماءُ واخْضَرَّ، ثمَّ يُخْرِجُ الحصرمَ فيَنْتَفعُ النَّاسُ بهِ حامضًا ويَتَناوَلونَ منهُ طبخًا واعتصارًا، ثمَّ يَنْقَلِبُ حلوًا فيَنْتَفعُ النَّاسُ بهِ حلوًا رطبًا ويابسًا ويَسْتَخْرِجونَ منهُ ما يَنْتَفِعونَ بحلاوتِهِ طولَ العامِ وما يَأْتَدِمونَ بحمضِهِ وهوَ نعمَ الإدامُ. فهذهِ التَّنقُلاتُ توجِبُ للعاقلِ الدَّهشَ والتَّعجُّبَ مِن صنعِ صانعِهِ وقدرةِ خالقِهِ، فيَنْبَغي لهُ أنْ يُفَرِّغَ عقلَهُ للتَّفكُّرِ في هذهِ النِّعمِ والشِّكرِ عليها. وأمَّا الجاهلُ؛ فيَأْخُذُ العنبَ فيَجْعَلُهُ خمرًا فيُغَطِّي بهِ العقلَ الذي يَنْبَغي أنْ يُسْتَعْمَلَ في التَّفكُّرِ والشُّكرِ حتَّى يَنْسى خالقَهُ المنعمَ عليهِ بهذهِ النِّعمِ كلِّها، فلا يَسْتَطيعُ بعدَ سكرِهِ أنْ يَقومَ لهُ بذكرِهِ ولا بشكرِهِ، بل يَنْسى في سكرِهِ مَن خَلَقَهُ ورَزَقَهُ فلا يَعْرِفُهُ بالكلِّيَّة، وهذا نهايةُ كفرانِ النِّعمِ الوقوعُ في هذهِ البليَّة.

فَوا عَجَبًا كَيْفَ يَعْصي الإلـ … ـهَ أمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الجاحِدُ

وَلِلهِ في كُلِّ تَحْريكَةٍ … وَفي كُلِّ تَسْكينَةٍ شاهِدُ

وَفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ … تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ

• ومِن وجوهِ الاعتبارِ في النَّظرِ إلى الأرضِ التي أحْياها اللهُ بعدَ موتِها في فصلِ الرَّبيعِ بما ساقَ إليها مِن قطرِ السَّماءِ أنَّهُ يُرْجى مِن كرمِهِ أنْ يُحْيِيَ القلوبَ الميتةَ بالذُّنوبِ وطولِ الغفلةِ بسماعِ الذِّكرِ النَّازلِ مِن السَّماءِ. وإلى ذلكَ الإشارةُ بقولهِ تَعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} إلى قولِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: ١٦، ١٧]. ففيهِ إشارةٌ إلى أن مَن قَدَرَ على إحياءِ الأرضِ بعدَ موتها بوابلِ القطرِ فهوَ قادرٌ على إحياءِ القلوبِ الميتةِ القاسيةِ بالذِّكرِ. عَسى لمحةٌ مِن لمحاتِ عطفِهِ، ونفحةٌ مِن نفحاتِ لطفِهِ، وقد صَلَحَ مِن القلوبِ كلُّ ما فَسَدَ، فهوَ اللطيفُ الكريمُ.

<<  <   >  >>