للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سُلَيْمانَ! قد وَضَعْنا في هذهِ ما أصابَها، ولو كانَتِ الأُخرى؛ لَوَضَعْنا فيها. [قالَ]: فآلَيْتُ على نفسي ألَّا أدْعُوَ إلَّا ويدايَ خارجتانِ حرًّا كانَ أو بردًا.

وقالَ مالِكٌ: كانَ صَفْوانُ بنُ سُلَيْمٍ يُصَلِّي (يَعْني: بالليلِ) في الشِّتاءِ في السَّطحِ وفي الصَّيفِ في بطنِ البيتِ؛ يَتيَقَّظُ بالحرِّ والبردِ حتَّى يُصْبِحَ، ثمَّ يَقولُ: هذا الجهدُ مِن صفوانَ، وأنتَ أعلمُ بهِ! وإنَّهُ لَتَرِمُ رجلاهُ حتَّى يَعودَ مثلَ السِّقطِ مِن قيامِ الليلِ ويَظْهَرُ فيهِما عروقٌ خضرٌ.

وكانَ صفوانُ وغيرُهُ مِن العبَّادِ يُصَلُّونَ في الشِّتاءِ بالليلِ في ثوبٍ واحدٍ لِيَمْنَعَهُمُ البردُ مِن النَّومِ.

ومنهُم مَن كانَ إذا نَعَسَ ألْقى نفسَهُ في الماءِ ويَقولُ: هذا أهونُ مِن صديدِ جهنَّمَ (١).

كانَ عَطاءٌ الخُراسانِيُّ يُنادي أصحابَهُ بالليلِ: يا فلانُ! يا فلانُ! يا فلانُ! قوموا تَوَضَّؤوا وصَلُّوا، فقيامُ هذا الليلِ وصيامُ هذا النَّهارِ أهونُ مِن شربِ الصَّديدِ ومقطَّعاتِ الحديدِ غدًا في النَّارِ. الوَحا الوَحا (٢)! النَّجاءَ النَّجاءَ!

وكانَ قومٌ مِن العبَّادِ يَبيتونَ في مسجدٍ، [وكانوا] يَتَهَجَّدونَ بالليلِ، فاسْتَيْقَظَ واحدٌ منهُم ليلةً، فوَجَدَ إخوانَهُ نيامًا، فسَمعَ هاتفًا يَهْتِفُ مِن جانبِ المسجدِ:

أيا عَجَبًا لِلنَّاسِ قَرَّتْ عُيونَهُمْ … مَطاعِمُ غَمْضٍ بَعْدَها المَوْتُ مُنْتَصِبْ

وطولُ قيامِ الليلِ أيْسَرُ مُؤْنَةً … وَأهْوَنُ مِن نارٍ تَفورُ وتَلْتَهِبْ

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: أن ابنَ عُمَرَ رَأى في منامِهِ كأنَّ آتيًا أتاهُ فانْطَلَقَ بهِ إلى النَّارِ حتَّى رَآها، ورَأى فيها رجالًا يَعْرِفُهُم معلَّقينَ بالسَّلاسلِ، فأتاهُ ملكٌ فقالَ لهُ: لمْ تُرَعْ، لستَ مِن أهلِها. فقَصَّ ذلكَ على أُختِهِ حَفْصَةَ. فقَصَّتْهُ حَفْصَةُ على رسولِ اللهِ


(١) دخل - صلى الله عليه وسلم -، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟ ". قالوا: لزينب، فإذا فترت (يعني: عن صلاة الليل) تعلّقت به. فقال - صلى الله عليه وسلم - "حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد". رواه: البخاري (١١٥٠)، ومسلم (٧٨٤). وقال في حديث عائشة عند مسلم (٧٨٦): "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد". والأحاديث نحوه كثيرة، وسنّته - صلى الله عليه وسلم - أولى بالاتّباع من تعمّق المتعمّقين وتنطّع المتنطّعين.
(٢) الوحا الوحا: أسرعوا أسرعوا.

<<  <   >  >>