للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودثارًا؛ فإنَّ البردَ عدوٌّ، سريعٌ دخولُهُ، بعيدٌ خروجُهُ.

وإنَّما كانَ يَكْتُبُ بذلكَ عُمَرُ إلى أهلِ الشَّامِ لمَّا فُتِحَتْ في زمنِهِ، فكانَ يَخْشى على مَن بها مِن الصَّحابةِ وغيرِهِم ممَّن لمْ يَكُنْ لهُ عهدٌ بالبردِ أنْ يَتَأذَّى ببردِ الشَّامِ، وذلكَ مِن تمامِ نصيحتِهِ وحسنِ نظرِهِ وشفقتِهِ وحياطتِهِ لرعيَّتِهِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.

ورُوِيَ عن كَعْبٍ؛ قالَ: أوْحى اللهُ إلى داوودَ عليهِ السَّلامُ: أنْ تأهَّبْ لعدوٍّ قد أظَلَّكَ. قالَ: يا ربِّ! مَن عدوِّي، وليسَ بحضرتي عدوٌّ؟ قالَ: بلى؛ الشِّتاءُ.

وليس المشروعُ أنْ (١) يَتَّقِيَ البردَ حتَّى لا يُصيبَهُ [منهُ] (٢) شيءٌ بالكلِّيَّةِ؛ فإنَّ ذلكَ يَضرُّ أيضًا. وقد كانَ بعضُ الأُمراءِ يَصونُ نفسَهُ من البردِ والحرِّ بالكلِّيَّةِ حتَّى لا يُحِسَّ بهِما بدنُهُ، فتَلِفَ باطنُهُ وتُعُجِّلَ موتُهُ. فإنَّ الله بحكمتِهِ جَعَلَ الحرَّ والبردَ في الدُّنيا لمصالحِ عبادِهِ، فالحرُّ لتحلُّلِ الأخلاطِ والبردُ لجمودِها، فمتى لم يُصِبِ الأبدانَ شيءٌ مِن الحرِّ والبردِ؛ تَعَجَّلَ فسادُها، ولكنِ المأْمورُ بهِ اتِّقاءُ ما يُؤْذي البدنَ مِن ذلكَ؛ فإنَّ الحرَّ المؤذيَ والبردَ المؤذيَ معدودانِ مِن جملةِ أعداءِ بني آدَمَ.

قيلَ لأبي حازِمٍ الزَّاهدِ: إنَّكَ لَتُشَدِّدُ (يَعْني: في العبادةِ)! فقالَ: وكيفَ لا أُشَدِّدُ وقد تَرَصَّدَ لي أربعةَ عشرَ عدوًّا؟! قيلَ: لكَ خاصَّةً؟ قالَ: بل لجميعِ مَن يَعْقِلُ. قيلَ لهُ: وما هذهِ الأعداءُ؟ قالَ: أمَّا أربعةٌ؛ فمؤمنٌ يَحْسُدُني ومنافقٌ يُبْغِضُني وكافرٌ يُقاتِلُني وشيطانٌ يُغْويني ويُضِلُّني، وأمَّا العشرةُ؛ فالجوعُ والعطشُ والحرُّ والبردُ والعريُ والمرضُ والفاقةُ والهرمُ والموتُ والنَّارُ، ولا أُطيقُهُنَّ إلَّا بسلاحٍ تامٍّ، ولا أجِدُ لهنَّ سلاحًا أفضلَ مِن التَّقوى. فعَدَّ الحرَّ والبردَ مِن جملةِ أعدائِهِ.

وقالَ الأصْمَعِيُّ: كانتِ العربُ تُسَمِّي الشِّتاءَ الفاضحَ. فقيلَ لامرأةٍ منهُم: أيُّما أشدُّ عليكُـ[ــمُ]؛ القيظُ أمِ القرُّ؟ قالَـ[ــتْ]: سبحانَ اللهِ! مَن جَعَلَ البأْسَ كالأذى؟! فجَعَلْتِ الشِّتاءَ بأْسًا والقيظ أذًى (٣).


(١) في ن وط: "وليس المأمور أن".
(٢) ليست في خ وم ون، استفدتها من ط ليستقيم بها السياق.
(٣) البأس: العذاب والشدّة والضرّ.

<<  <   >  >>