للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الحلقومَ والتَّراقيَ.

وقد دَلَّ القرآنُ على مثلِ ذلكَ [أيضًا]: قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: ١٧]. وعملُ السُّوءِ إذا أُفْرِدَ؛ دَخَلَ فيهِ (١) جميعُ السَّيِّئاتِ صغيرُها وكبيرُها.

• والمرادُ بالجهالةِ الإقدامُ على عملِ السُّوءِ، وإنْ عَلِمَ صاحبُهُ أنَّهُ سوءٌ؛ فإنَّ كلَّ مَن عَصى الله فهوَ جاهلٌ وكلَّ مَن أطاعَهُ فهوَ عالمٌ، وبيانُهُ مِن وجهينِ:

• أحدُهُما: أن مَن كانَ عالمًا باللهِ وعظمتِهِ وكبريائِهِ وجلالِهِ؛ فإنَّهُ يَهابُهُ ويَخْشاهُ، فلا يَقَعُ منهُ معَ استحضارِ ذلكَ عصيانُهُ. كما قالَ بعضُهُم: لو تَفَكَّرَ النَّاسُ في عظمةِ اللهِ؛ ما عَصَوْهُ. وقالَ آخرُ: كَفى بخشيةِ اللهِ علمًا وكَفى بالاغترارِ باللهِ جهلًا.

• والثاني: أن مَن آثَرَ المعصيةَ على الطَّاعةِ؛ فإنَّما حَمَلَهُ على ذلكَ: جهلُهُ وظنُّهُ أنَّها تَنْفَعُهُ عاجلًا باستعجالِ لذَّتِها، وإنْ كانَ عندَهُ إيمانٌ؟ فهوَ يَرْجو التَّخلُّصَ مِن سوءِ عاقبتِها بالتَّوبةِ في آخرِ عمرِهِ. وهذا جهلٌ محضٌ؛ فإنَّهُ يَتَعَجَّلُ الإثمَ والخزيَ ويَفوتُهُ عزُّ التَّقوى وثوابُها ولذَّةُ الطَّاعةِ، وقد يَتَمَكَّنُ مِن التَّوبةِ بعدَ ذلكَ وقد يُعاجِلُهُ الموتُ بغتةً، فهوَ كجائعٍ أكَلَ طعامًا مسمومًا لدفعِ جوعِهِ الحاضرِ ورَجا أنْ يَتَخَلَّصَ مِن ضررِهِ بشربِ الدِّرياقِ (٢) بعدَهُ، وهذا لا يَفْعَلُهُ إلَّا جاهلٌ.

وقد قالَ اللهُ تَعالى في حقِّ الذينَ يُؤْثِرونَ السِّحرَ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٠٢ - ١٠٣]. والمرادُ أنَّهُم آثَروا السِّحرَ على التَّقوى والإيمانِ لِما رَجَوْا فيهِ مِن منافعِ الدُّنيا المعجَّلةِ معَ علمِهِم أنَّهُم يَفوتُهُم بذلكَ ثوابُ الآخرةِ، وهذا جهلٌ منهُم؛ فإنَّهُم لو عَلِموا؛ لآثَروا الإيمانَ والتَّقوى على ما عَداهُما، فكانوا يُحْرِزونَ أجرَ الآخرةِ ويَأْمَنونَ عقابَها ويَتَعَجَّلونَ عزَّ التَّقوى في الدُّنيا، وربَّما وَصَلوا إلى ما يَأْمُلونَهُ في الدُّنيا


(١) في خ: "يدخل فيه"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.
(٢) الدرياق والترياق: ما يشرب لتعديل أثر السمّ.

<<  <   >  >>