للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[أ] وإلى خيرٍ منهُ [وأنفعَ]؛ فإن أكثرَ ما يُطْلَبُ بالسِّحرِ قضاءُ حوائجَ محرَّمةٍ أو مكروهةٍ عندَ اللهِ، والمؤمنُ المتَّقي يُعَوِّضُهُ اللهُ في الدُّنيا خيرًّا ممَّا يَطْلُبُهُ السَّاحرُ ويُؤْثِرُهُ معَ تعجيلِهِ عزَّ التَّقوى وشرفَها وثوابَ الآخرةِ وعلوَّ درجاتِها، فتبَيَّنَ بهذا أن إيثارَ المعصيةِ على الطَّاعةِ إنَّما يَحْمِلُ عليهِ الجهلُ، فلذلكَ كانَ كلُّ مَن عَصى الله جاهلًا وكلُّ مَن أطاعَهُ عالمًا، وكَفى بخشيةِ اللهِ علمًا وبالاغترارِ بهِ جهلًا.

• فأمَّا التَّوبةُ مِن قريبٌ؛ فالجمهورُ على أن المرادَ بها التَّوبةُ قبلَ الموتِ. والعمرُ كلُّهُ قريبٌ، والدُّنيا كلُّها قريبٌ، فمَن تابَ قبلَ الموتِ؛ فقد تابَ مِن قريبٍ، ومَن ماتَ ولمْ يَتُبْ؛ فقد بَعُدَ كلَّ البعدِ. كما قيلَ:

فَهُمْ جِيرَةُ الأحْياءِ أمَّا مَزارُهُمْ … فَدانٍ وَأمَّا المُلْتَقى فَبَعيدُ

فالحيُّ قريبٌ، والميِّتُ بعيدٌ مِن الدُّنيا على قربِهِ منها؛ فإنَّ جسمَهُ في الأرضِ يَبْلى، وروحَهُ عندَ اللهِ تُنَعَّمُ أو تُعَذَّبُ، ولقاؤُهُ لا يُرْجى في الدُّنيا، كما قيلَ:

مُقيمٌ إلى أنْ يَبْعَثَ اللهُ خَلْقَهُ … لِقاؤُكَ لا يُرْجى وَأنْتَ قَريبُ

تَزيدُ بِلًى في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ … وَتُنْسى كَما تَبْلى وَأنْتَ حَبيبُ

وهذانِ البيتانِ سَمِعَهُما داوودُ الطَّائِيُّ رَحِمَهُ اللهُ مِنِ امرأةٍ في مقبرةٍ تَنْدُبُ بهِما ميِّتًا لها، فوَقَعا مِن قلبِهِ موقعًا، فاسْتَيْقَظَ بهِما ورَجَعَ زاهدًا في الدُّنيا راغبًا في الآخرةِ وانْقَطَعَ إلى العبادةِ إلى أنْ ماتَ.

فمَن تابَ قبلَ أنْ يُغَرْغِرَ؛ فقد تابَ مِن قريبٍ، فتُقْبَلُ توبتُهُ.

ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ في قولِهِ تَعالى: {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: ١٧]؛ قالَ: قبلَ المرضِ والموتِ.

وهذا إشارةٌ إلى أنَّ أفضلَ أوقاتِ التَّوبةِ هوَ أنْ يُبادِرَ الإنسانُ بالتَّوبةِ في صحَّتِهِ قبلَ نُزولِ المرضِ بهِ حتَّى يَتَمَكَّنَ حينئذٍ مِن العملِ الصَّالحِ. ولذلكَ قَرَنَ اللهُ التَّوبةَ بالعملِ الصَّالحِ في مواضعَ كثيرةٍ مِن القرآنِ.

وأيضًا؛ فالتَّوبةُ في الصِّحَّةِ ورجاءِ الحياةِ تُشبِهُ الصَّدقةَ بالمالِ في الصِّحَّةِ ورجاءِ البقاءِ، والتَّوبةُ في المرضِ عندَ حضورِ أماراتِ الموتِ تُشْبِهُ الصَّدقةَ بالمالِ عندَ الموتِ،

<<  <   >  >>