فكأنَّ مَن لا يَتوبُ إلَّا في مرضِهِ قدِ اسْتَفْرَغَ صحَّتَهُ وقوَّتَهُ في شهواتِ نفسِهِ وهواهُ ولذَّاتِ دنياهُ، فإذا أيِسَ مِن الدُّنيا والحياةِ فيها؛ تابَ حينئذٍ وتَرَكَ ما كانَ عليهِ. فأينَ توبةُ هذا مِن توبةِ مَن يَتوبُ مِن قريب وهوَ صحيحٌ قويٌّ قادرٌ على عملِ المعاصي تاركٌ لها خوفًا مِن اللهِ عَزَّ وجَلَّ ورجاءً لثوابِهِ وإيثارًا لطاعتِهِ على معصيتِهِ؟!
دَخَلَ قومٌ على بِشْرٍ الحافي وهوَ مريضٌ، فقالوا لهُ: على ماذا عَزَمْتَ؟ قالَ: عَزَمْتُ على أنِّي إذا عوفِيتُ تُبْتُ. فقالَ لهُ رجلٌ منهُم: فهلَّا تُبْتَ السَّاعةَ! فقالَ: يا أخي! أما عَلِمْتَ أن الملوكَ لا تَقْبَلُ الأمانَ ممَّن في رجلِهِ القيدُ وفي رقبتِهِ الغلُّ، إنَّما يُقْبَلُ الأمانُ ممَّن هوَ راكبٌ الفرسَ والسَّيفُ مجرَّدٌ بيدِهِ؟! فبَكى القومُ جميعًا (١).
ومعنى هذا أن التَّائبَ في صحَتِهِ بمنزلةِ مَن هوَ راكبٌ على متنِ جوادِهِ وبيدِهِ سيفٌ مشهورٌ، فهوَ يَقْدِرُ على الكرِّ والفرِّ والقتالِ وعلى الهربِ مِن الملكِ وعصيانِهِ، فإذا جاءَ على هذهِ الحالِ إلى بينَ يديِ الملكِ ذليلًا لهُ طالبًا لأمانِهِ؛ فقد صارَ بذلكَ مِن خواصِّ الملكِ وأحبابِهِ؛ لأنَّهُ جاءَهُ طائعًا مختارًا لهُ راغبًا في [قربِهِ وخدمتِهِ. وأمَّا مَن هوَ في أسرِ الملكِ وفي رجلِهِ قيدٌ وفي رقبتِهِ غلٌّ؛ فإنَّهُ إذا طَلَبَ] الأمان مِن الملكِ؛ فإنَّما طَلَبَهُ خوفًا على نفسِهِ مِن الهلاكِ، وقد لا يَكونُ محبًّا للملكِ ولا مؤثرًا لرضاهُ. فهذا مثلُ مَن لا يَتوبُ إلَّا في مرضِهِ عندَ موتِهِ، والأوَّل بمنزلةِ مَن يَتوبُ في صحَّتِهِ وقوَّتِهِ وشبيبتِهِ.
(١) أسعد الخلق بهذه النصيحة هو إبليس! ولا تخلو عبارة منها من نظر من وجوه: أوّلها: أنّه إن عزم على التوبة وهو مقيم على المعصية؛ فهذا تلعّب من الشيطان به كما سيأتي. وإن عزم على التوبة من معاص كان يفعلها أيّام صحّته؛ فهذا العزم توبة إن ندم صاحبه. والثاني: أنّ قياس الله تعالى بملوك الدنيا في هذه القضيّة من أفسد القياس وأبعده عن الصواب! أين الغنيّ الرحيم الكريم الحليم الصبور من ملوك الدنيا؟! أليس من العجب أن يقاس الجهلة الذين لا يعرفون خفايا النوايا بالذي يعلم السرّ وأخفى ويعلم من تاب حقًّا ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟! والثالث: أن قياس راكب الفرس بالصحيح المعافى في هذا الباب قياس فاسد أيضًا؛ لأنّ راكب الفرس حامل السيف قد يخرج عن سلطان الملك وينجو من سطوته، بخلاف الصحيح المعافى الذي هو في قبضة الله وتحت قهره وسلطانه كالمريض سواء والرابع: وليت شعري! إذا أجّل المريض توبته انتظارًا للعافية ثمّ قبضه الله في مرضه ذاك؛ فأيّ مصيبة أعظم من مصيبته؟! وأيّ نفع سيجنيه من تلك الشقشقة؟! لا أظنّه والله إلّا فيمن يعضّ على يديه ويقول: يا ويلتا! ليتني لم أتّخذ فلانًا خليلًا!