(٢) قصص شاعت وذاعت بعد القرون الثلاثة الأولى ما ترى في السابقين الأولين لها عينًا ولا أثرًا! وكلّما زادت رائحة المسك وعفّت زاد تقديس العامة لصاحبها! وقد اعتاد صوفيّة الشام وغيرهم بين فينة وأخرى أن يشيعوا بين الناس أنّ فلانًا (وليّ الله الحيّ!) قد رأى في نومه فلانًا (وفي الله الميّت!) فطلب منه أن ينقله من مقبرة البلد لأن العصاة كثروا فيها ويجعله في مقام خاص (غالبًا ما يكون مسجدًا)! فيذهب جماعة من القوم خلسة في الليل، فينبشون القبر، ويجمعون ما فيه من التراب ثم يلفّونه في القطن الممسك ويدرجونه في أكفان بيضاء جديدة ممسكة، ثمّ يرشون المسك داخل القبر ويعيدونه كما كان، فإذا طلع الصباح خرجت جماعة منهم كبيرة بالدفوف والأناشيد يتبعهم العوامّ، فيكشفون القبر مرة أخرى ويحملون الوليّ المزعوم إلى المقام الجديد! ثم تأتيك أخبار العوامّ: هذا يقسم أنّه رآه بشحمه ولحمه وشعر صدره! وهذا يقسم أنه شمّ روائح المسك من باب المقبرة! وهذا يقسم أنّه رآه يتحرّك بأمّ عينيه! فيتسارع الجهلة والضلّال إلى الولي الحيّ في قبره وينذرون له النذور ويقربون له القربات. قد رأيت أنا وغيري هذا وعايشناه، وهو غيض من فيض من بلايا هذه القصّة وأمثالها! وإذا كان الصدّيق أبو بكر قد أوصى أن يكفّن بثوب قديم وقال: إنّما هو للمهلة (يعني: القيح والصديد)؛ فماذا أبقى لأولئك الذين يتحلّلون في قبورهم إلى مسك وعنبر؟! وإذا كانت روائح التلاوة والظمأ لم تصدر من قبر عبد الله بن عمرو صوّام الأمّة؛ فماذا بقي لمن بعده؟!