للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتصريف، وذلك أن حركات العبادات قد انقسمت إلى اختيارية، وغير اختيارية، فما كان منها باختيار من جهتهم، فيجب أن يكون للمالك فيها حكم وأمر. وما كان منها بلا اختيار فيجب أن يكون فيها تصريف وتقدير. ومن المعلوم أن ليس كل أحد يعرف حكم الباري تعالى وأمره. فلا بد إذن من واحد يستأثره بتعريف حكمه وأمره في عباده، وذلك الواحد يجب أن يكون من جنس البشر حتى يعرفهم أحكامه وأوامره. ويجب أن يكون مخصوصا من عند الله عز وجل بآيات خلقية هي حركات تصريفية وتقديرية، يجريها الله على يده عند التحدي بما يدعيه، تدل تلك الآيات على صدقه، نازلة منزلة التصديق بالقول. ثم إذا ثبت صدقه وجب أتباعه في جميع ما يقول ويفعل، وليس يجب الوقوف على كل ما يأمر به وينهى عنه، إذ ليس كل علم تبلغ إليه قوة البشر.

ثم الوحي من عند العزيز يمد حركاته الفكرية، والقولية، والعملية بالحق في الأفكار، والصدق في الأقوال، والخير في الأفعال. فبطرف يماثل البشر، وهو طرف الصورة، وبطرف يوحى إليه، وهو طرف المعنى والحقيقة {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} ١ فبطرف يشابه نوع الإنسان، وبطرف يماثل نوع الملائكة، وبمجموعهما يفضل النوعين، حتى تكون بشريته فوق بشرية النوع مزاجا، واستعدادا، وملكيته فوق ملكية النوع الآخر قبولا وأداء. فلا يضل ولا يغوي بطرف البشرية، ولا يزيغ ولا يطغى بطرف الروحانية، فيقرر أن أمر الباري تعالى واحد لا كثرة فيه، ولا انقسام له {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} ٢ غير أنه يلبس تارة عبارة العربية، وتارة عبارة العبرية، والمصدر يكون واحدا، والمظهر متعددا.

والوحي إلقاء الشيء بسرعة، فيلقى الروح الأمر إليه دفعة واحدة، بلا زمان {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} ٣، فيتصور في نفسه الصافية صورة الملقى، كما يتمثل في المرآة المجلوة


١ الإسراء آية ٩٣.
٢، ٣ القمر آية ٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>