نورا قليلا من النور الأول، فلذلك النور وجد فيه نوع ثبات، ولولا ذلك لم يثبت طرفة عين، وذلك النور القليل: جسم النفس والعقل الحامل لهما في هذا العالم.
وذكر أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله، وهو عالم صغير، والعالم إنسان كبير، ولذلك صار حظه من النفس والعقل أوفر، فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم وكيفية تأليفه، ومن ضيع نفسه ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود، وانحل عن رباط القدر والمقدور، وصار ضياعا هملا.
وربما يقول: النفس الإنسانية تأليفات عددية أو لحنية، ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان، والتذت بسماعها وطاشت، وتواجدت باستماعها وجاشت. ولقد كانت قبل اتصالها بالأبدان قد أبدعت من تلك التأليفات العددية الأولى، ثم اتصلت بالأبدان، فإن كانت التهذيبات الخلقية على تناسب الفطرة، وتجردت النفوس عن المناسبات الخارجة اتصلت بعالمها، وانخرطت في سلكها على هيئة أجمل وأكمل من الأول، فإن التأليفات الأولى قد كانت ناقصة من وجه حيث كانت بالقوة، وبالرياضة والمجاهدة في هذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل.
قال: والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية. وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول: ليس في العالم سوى التأليف، والأجسام والأعراض تأليفات، والنفوس والعقول تأليفات.
ويعسر كل العسر تقرير ذلك! نعم! تقدير التأليف على المؤلف والتقدير على المقدر أمر يهتدي إليه ويعول عليه.
وكان خرينوس وزينون الشاعر متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع. إلا أنهما قالا: الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة، ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما، وفي بدء ما أبدعهما أبدعهما لا يموتان. ولا يجوز عليهما الدثور والفناء.