للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها، وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذبا من كل ثقل وكدر.

فأما الجرم -الذي من الماء والأرض- فإن ذلك يدثر ويفنى، لأنه غير مشاكل للجسم السماوي، لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس. فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم، لأنه أشد روحانية، وهذا العالم لا يشاكل الجسم، بل الجرم يشاكله. فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب كانت الجسمية أغلب، وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية أغلب. وهذا العالم عالم الجرم، وذلك العالم عالم الجسم. فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني لا جرماني دائما، لا يجوز عليه الفناء والدثور، ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس.

وقيل لفيثاغورس: لم قمت بإبطال العالم؟، قال: لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان، فإذا بلغها سكنت حركته. وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية، وذلك كما يقال: التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود.

وأما هيراقليطس وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا: إن مبدأ الموجودات هو النار، فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض، وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء، وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء، وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار نارا. فالنار مبدأ، وبعدها الارض، وبعدها الماء، وبعدها الهواء، وبعدها النار. والنار هي المبدأ وإليها المنتهي، فمنها التكون وإليها الفساد.

وأما أبيفورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس، فكان يرى أن مبادىء الموجودات أجسام تدرك عقلا، وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء، وزعم أن الخلاء

<<  <  ج: ص:  >  >>