ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما بالأبدان، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها، ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله، فتصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير والبهاء والحق، ومتحدا به، ومنتقشا بمثاله، ومنخرطا في سلكه، وصائرا من جوهره، وهذا الكمال لا يقاس بسائر الكمالات وجودا ودواما ولذة وسعادة، بل هذه اللذة أعلى من اللذات الحسية، وأعلى من الكمالات الجسمانية، بل لا مناسبة بينهما في الشرف والكمال. وهذه السعادة لا تتم له إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس، وتهذيب الأخلاق. والخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية، وذلك باستعمال التوسط بين الخلقتين المضادتين، لا بأن يفعل أفعال التوسط بل بأن يحصل ملكة التوسط بين الخلقتين المضادتين، فيحصل في القوى الحيوانية هيئة الإذعان، وفي القوى الناطقة هيئة الاستعلاء. ومعلوم أن ملكتي الإفراط والتفريط هما من مقتضيات القوى الحيوانية، فإذا قويت حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية قد رسخت فيها من شأنها أن تجعلها قوية العلاقة مع البدن، شديدة الانصراف إليه. وأما ملكة التوسط فهي من مقتضيات الناطقة، فإذا قويت قطعت العلاقة من البدن، فسعدت السعادة الكبرى. ثم للنفوس مراتب في اكتساب هاتين القوتين، أعني العلمية والعملية والتقصير فيهما. فكم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات، والتخلق بالأخلاق الحسنة حتى يجاوز الحد الذي في مثله يقع في الشقاوة الأبدية. وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤبد؟ وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤقت؟ قال: فليس يمكنني أن أنص عليه إلا بالتقريب، وليته سكت عنه، وقد قيل:
فدع عنك الكتابة لست منها ... ولو سودت وجهك بالمداد
قال: وأظن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادئ المفارقة تصورا حقيقيا، ويصدق بها تصديقا يقينا لوجودها عنده بالبرهان، ويعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى، ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب