فتبين بهذه الجملة أن محل المعقولات ليس بجسم، ولا قوة في جسم، فهو إذن جوهر معقول، علاقته مع البدن لا علاقة حلول ولا علاقة انطباع بل علاقة التدبير والتصرف، وعلاقته من جهة العلم الحواس الباطنة المذكورة، وعلاقته من جهة العمل القوى الحيوانية المذكورة، فيتصرف في البدن, وله فعل خاص يستغني به عن البدن وقواه، فإن من شأن هذا الجوهر أن يعقل ذاته، ويعقل أنه عقل ذاته، وليس بينه وبين ذاته آلة، ولا بينه وبين آلته آلة، فإن إدراك الشيء لا يكون إلا بحصول صورته فيه, وما يقدر آلة من قلب أو دماغ لا يخل إما أن تكون صورته بعينها حاصلة للعقل حاضرة، وإما أن تكون صورة غيرها بالعدد حاصلة، وباطل أن تكون صورة الآلة حاضرة بعينها، فإنها في نفسها حاصلة أبدا، فيجب أن يكون إدراك العقل لها حاصلا أبدا، وليس الأمر كذلك، فإنه تارة يعقل, وتارة يعرض عن الإدراك، والأعراض عن الحاضر محال. وباطل أن تكون الصور غير الآلة بالعدد، فإنها إما أن تحل في نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بنفسها وليست في الجسم، وإما بمشاركة الجسم حتى لا تكون هذه الصورة المغايرة في نفس القوة العقلية وفي الجسم الذي هو الآلة، فيؤدي إلى اجتماع صورتين متماثلتين في جسم واحد، وهو محال. والمغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد إما لاختلاف المواد أو لاختلاف ما بين الكلي والجزئي وليس هذان الوجهان، فثبت أنه لا يحرز أن يدرك المدرك آلة هي آلته في الإدراك.
ولا يختص ذلك بالعقل، فإن الحس إنما يحس شيئا خارجا ولا يحس ذاته ولا آلته ولا إحساسه، وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته، ولهذا فإن القوى الدراكة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل، والأمور القوية والشاقة الإدراك توهنها وربما تفسدها، كالضوء الشديد للبصر، والرعد القوي للسمع، وكذلك عند إدراك القوي لا يقوى على إدراك الضعيف. والأمر في القوة العقلية بالعكس، فإن إدامتها للتعقل وتصورها الأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول، وإن عرض لها كلال وملال فلاستعانة العقل بالخيال.