للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المكاتبات إلى أهل الإسلام ما يستفزّونهم به، ويدعونهم إلى طاعتهم، وصحبتهم، والانحياز إلى ولايتهم، فالذي يظهر هذه الفتوى، ويستدلّ بها على مثل هذه الحال، من أجهل الناس بمدارك الشر، ومقاصد أهل العلم، وهو كمن يستدل بتقبيل الصائم على أن الوطء لا يبطل صيامه.

وهذا من جنس ما حصل من هؤلاء الجهلة، في رسالة ابن عجلان (١) ، وما فيها من الاستدلال على جواز خيانة الله ورسوله، وتخلية بلاد المسلمين، وتسليط أهل الشرك عليها، وأهل التعطيل والكفر بآيات الله، وغير ذلك من ظهور سلطانهم، وإبطال الشرع بالكليّة، بمسألة خلافية في جواز الاستعانة بمشرك ليس له دولة، ولا صولة، ولا دخل في الرّأي (٢) ، مع أنها من المسائل المردودة على قائلها، كما بسط في غير موضع، وبالجملة، فإظهار مثل هذه الفتوى في هذه الأعصار، من الوسائل المفضية إلى أكبر محذور، وأعظم المفاسد والشرور، مع أنّ عبارة الشيخ، إذا تأمّلها المنصف، وجد فيها ما يرد على هؤلاء المبطلة.

وقول الشيخ "عمّت به البلوى" يبيّن أنّ الجواب في الجاري في وقته، مع ظهور الإسلام وعزته، وإظهار دين من سافر إلى جهاتهم، وليس ذلك ما في السفر إليهم في هذه الأوقات؛ إذ هو مسالمة وإعراض عما وجب من فروض العين. وإذا هجم العدوّ، وصار الجهاد فرض عين، يحرم تركه، ولو للسفر المباح، فكيف بهذا السفر؟!


(١) هو محمد بن إبراهيم بن عجلان المطرفي العنزي، ولد بالرياض، كان كفيف البصر وقت الفتنة بين أبناء فيصل بن تركي، وكان ممن أجاز لعبد الله الاستعانة بالجنود العثمانية –مع ما هم عليه من مخالفة لخالص التوحيد-وألف في ذلك رسالة، فرد عليه الشيخ عبد اللطيف. علماء نجد خلال ستة قرون، ٣/٧٧٩.
(٢) مسألة الاستعانة بالمشرك في الغزو:
هذه مسألة خلافية، كما أشار إليها المصنف، وقد ذهب العلماء فيها مذهبين:
الأول: ذهبت جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين مطلقاً، وتمسكوا بحديث عائشة –رضي الله عنها-وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل المشرك الذي أدركه ليتبعه إلى بدر:" ... ارجع؛ فلن أستعين بمشرك ". والحديث أخرجه الإمام مسلم في صخيخه، ١٢/٤٣٩؛ والترمذي في سننه، ٤/١٠٨؛ وأبو داود في سننه، ٣/١٧٢؛ وابن ماجه في سننه، ٢/١٤٢. قالوا: هذا الحديث ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما يعارضه لا يوازيه في الصحة والثبوت، فتعذّر ادعاء النسخ لهذا،. انظر بدائع الفوائد ٣/١٠٢.
الثاني: ذهبت الشافعية وآخرون إلى جواز الاستعانة بهم، ولكن بشروط هي:
-أن يكون في المسلمين قلة، ودعت الحاجة إلى الاستعانة بهم.
-أن يكون الكافر حسن الرأي في المسلمين، وممن يوثق به.
-ألاّ يكون له دخل في الرأي ولا مشورة.
-ألاّ يكون للمشرك صولة ولا جولة يخشى منها.
انظر نيل الأوطار ٨/٢٥٤؛ المغني مع الشرح الكبير ١٠/٤٥٦.
وقد استدل هؤلاء على مذهبهم بالآتي:
أ-ما رواه ابن عباس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استعان بيهود بني قينقاع، أخرجه البيهقي في الكبرى ٩/٥٣؛ وأورده سعيد بن منصور في سننه برقم (٢٧٩٠) .
ب-"أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم استعان بصفوان بن أميّة قبل إسلامه، فشهد حنيناً، والطائف، وهو كافر". أخرجه الإمام مالك في الموطأ ٢/٥٤٣-٥٤٤، النكاح، باب (نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله) . والحديث أورده الذهبي في "سير الأعلام" ٢/٥٦٥؛ قالوا: إن حديث عائشة –رضي الله عنها-كان يوم بدر، وفي الحديث كان استعانته صلّى الله عليه وسلّم بهؤلاء يوم حنين، فهو متأخر، ناسخ لحديث عائشة، فتعيّن المصير إليه.
وإلى هذا الرأي الثاني ذهب الإمام ابن القيم –رحمه الله-فقد قال –حين تحدّث عن فوائد صلح الحديبية-: " ... ومنها: أنّ الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة، عند الحاجة، لأنّ عينه الخزاعي كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو، وأخذ أخبارهم"، زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط/٢٦، ١٤١٢هـ-١٩٩٢م، ٣/٣٠١.

<<  <  ج: ص:  >  >>