للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بلدتهم بلدة الهجرة الكبرى، والسيادة الباذخة العظمى، هاجر إليها المؤمنون، وقصدها المستجيبون، حتى إذا عزّ جانبهم، وقويت شوكتهم، أُذن لهم في الجهاد بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ١.

ثمّ لما اشتدّ ساعدهم، وكثر عددهم، أُنزلت آية السيف٢، وصار الجهاد من أفرض الفروض، وآكد الشعائر الإسلامية، فاستجابوا لله ورسوله، وقاموا بأعباء ذلك، وجرّدوا في حب الله ونصرة دينه السيوف، وبذلوا الأموال والنفوس، ولم يقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ٣.

فلمّا علم الله منهم الصِّدق في معاملته وإيثار مرضاته ومحبّته، أيّدهم بنصره وتوفيقه، وسلك بهم منهج دينه وطريقه، فأذلَّ بهم أنوفاً شامخة عاتية، وردَّ بهم إليه قلوباًً شاردة لاهية، فجاسوا خلال ديار الروم والأكاسرة، ومحو آثار ما عليه تلك الأمم العاتية الخاسرة، وظهر الإسلام في الأرض ظهوراً ما حصل قبل ذلك، وعلت كلمة الله، وظهر دينه فيما هنالك، واستبان لذوي الألباب والعلوم من أعلام نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو مقرَّر معلوم، ولم يزل ذلك في زيادة وظهور، وعَلَمُ الإسلام في كلِّ جهة من الجهات مرفوعٌ منصور، حتى حدث في الناس من فتنة الشهوات والاتساع والتمادي في فعل المحرمات، ملا لا يمكن حصره ولا استقصاؤه، فضعفت القوى الإسلامية، وغلِظَت الحجب الشهوانية، حتى ضعف العلم بحقائق الإيمان، وما كان عليه الصدر الأول من العلوم والشأن، فوقعت عند ذلك فتنة الشبهات، وتوالدت تلك المآثم والسيِّئات، وظهرت أسرار قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية٤، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لتتّبعنّ سنن من كان


١ سورة الحج الآية (٣٩) .
٢ وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:٢١٦] .
٣ سورة المائدة الآية (٢٤) .
٤ وتمامها: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة:٦٩] .

<<  <  ج: ص:  >  >>