للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم لما وجب القول بدار الجزاء على هذه الأعمال وجب القول بالخلود والبقاء لآنا أوجبنا هذا الترتيب لبيان حكمة الله تعالى فيجب أن لا تفوت هذه الحكمة لأنها إذا فاتت صار فعله عبثا فكما لا يفوت العاقبة المطلوبة من الصنع عن الصانع ابتداء لا يعجزه فكذلك لا يفوت بعد الوجود إلا بعجزه وتعالى الله عن ذلك وبهذا نطق الكتاب قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: ١١٥] أى حسبتم أنا عبثنا بخلقكم ثم نفى صفة العبث بحكم الرجوع إليه فيبين أنه لا يجوز أن تكون الدنيا دار ابتلاء بلا جزاء وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: ٧٢] الآية فأخبر أن الآدمى حملها عن اختيار لعاقبة تعذيب المشركين ومغفرة للمؤمنين وقال تعالى: {الذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: ٢] وقال تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: ١٥٤] ولما ثبت أن الصنع من الله تعالى لا يجوز إلا لعاقبة الاستعباد للجزاء وما سوى الإنسان من المحسوسات لا يصلحون للعبادة ولم يخاطبوا بها علم أنهم خلقوا لفائدة تجلب منهم أو لضر يدفع بهم وتعالى عن ذلك فعلم أنه خلقها لعود هذه الفائدة إلى عبده المبتلى بعبادته فإنه يحسن في الشاهد فعل شئ لفائدة تعود إليه أو إلى غيره بهذا نطق اكتاب قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [الجاثية: ١٣] وقال تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: ٢٩] وأيات في هذه المعنى كثيرة ثم ذكر محرمات العقل قطعا للدنيا وهذه المحرمات أربعة: الجهل والظلم والعبث والسفه أما الجهل فيكون بترك الاستدلال بنور عقله والعاقل ما ركب فيه العقل إلا ليقف به على مصالح غائبة لا تنال بالحواس وبه غلب ما في البر والبحر وسخرها وادعى لنفسه كل شئ منها فمتى لم يستدل بنور عقله لم ينل شيئا مما تمنى لنفسه من هذه المطالب فيحرم عليه بالعقل ما يفوت به أغراض العقلاء كما يحرم به ترك الأكل الذي هو سبب حياته وكما يحرم بالعقل ترك النظر بالعين عند إرادة الشئ إلى موضع يحتاج إليه ويحرم أيضا إطفاء السراج ليلا مع إرادة السلوك في المضائق لا يهتدى فيها إلا بسراج ولما حرم الجهل قطعا حرم الظلم من طريق الأولى لأن تفسيره وضع الشئ في غير موضعه فيكون الظلم مكابرة لما رأى بنور عقله فالأول نزل كالذي لم يفتح عينيه حتى وقع في بئر يقبح منه ذلك والثانى كالذي فتح عينيه ورأى البئر ثم

<<  <  ج: ص:  >  >>