وأما إذا أعوز الدليل من هذا الوجه ولم يكن بد من إقامة الدليل فقد جعل بعض أصحابنا مجرد الاطراد والجرى دليلا وقد ابطلنا ذلك وذكر كثير من أصحابنا وأصحاب أبى حنيفة أن الاطراد والانعكاس دليل على صحة العلة وهو أن يوجد الحكم بوجود وصف زائد وتزول بزواله فيدل أن لذلك الوصف التأثير في الحكم ما ليس لغيره.
واستدل من قال إن هذا دليل صحة العلة بأن العلل الشرعية علل ظنية وليس لها عمل إلا إفادة غالب الظن ونحن نعلم قطعا أن الحكم إذا وجد بوجود وصف وانتفى بعدمه غلب على الظن أنه العلة وهو كالشدة في الخمر فإنه يوجد التحريم بوجودها وينعدم بعدمها دل أنها العلة.
قالوا: ومن أنكر أن هذا يفيد غلبة الظن فقد عاند.
ببينة: أن مثل هذا يعتمد عليه في المؤثرات العقلية فكيف لا يعتمد عليه في المؤثرات الشرعية وإذا ثبت وجود غلبة الظن ولم يبطل كونه علة بمسلك من المسالك ثبت كونه علة وافاد الحكم الذى بنى عليه.
وقد قيل إن الحكم إذا ربط بالطرد والتنكيس فهو في العكس أبين من جهة أن الطارد في محل النزاع مدعى الاطراد وهو منازع فيه لا محالة وأما الانعكاس فهو متفق عليه لأن الانعدام عند عدم الوصف متفق عليه واعلم أن الاستدلال بهذا الدليل في نهاية الإشكال لأنا بينا أن الاطراد ليس بدليل على صحة العلة وهى شئ يلزم المعلل بكل حال حتى إذا لم يطرده والتزم ما ينقضه ظلت علته على ما سنبين من بعد.
ويقال للحنفى إذا قال: إن علة جريان الربا الكيل لم قلت إن الكيل علة؟ قال: لأنها علة مطرده قال لأنى أتبعها الحكم أين وجد الكيل فيقال هذا باتفاق بينى وبينك
فإن قال: باتفاق لم يسلم له ذلك وإن قال: لا باتفاق لكنى أطرد العلة وأتبع الحكم الكيل أين وجد فيقال له ليسوغ لك ذلك فإن قال: لا كفى الخصم شغله وإن قال: نعم فيقال له لم ساغ لك ذلك فإن قال: لأنها علة الحكم يقال: له ولم قلت إنها علة الحكم فيعود إلى ما بينا من قبل فهو يستدل على صحة العلة بالجريان ويستدل على صحة الجريان بالعلة وهذا فاسد. فإن قال: ساغ لى لأنها غير منتقضة يقال: معنى قولك غير منتقضة أنك علقت الحكم بها في كل موضع وجدت فيه العلة