للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما من أديب أو مستأذب في هذه الفترة حتى أخريات القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين إلا واهتم بكتابة الرسائل، يظهر فيه أدبه ويشهر براعته، وإذا كانت المقالة قد اتخذت طابعًا آخر، وجنحت إلى الأسلوب المرسل غالبًا، فقد ظلت الرسائل موضع احتفاء الكتاب، وتأنقهم وكان شيخهم في ذلك جميعًا عبد الله فكري، وقد وضع النموذج لهم بمحاكاته لكتاب القرنين الثالث، والرابع فنسجوا على منواله في مختلف رسائلهم، وها هو ذا الشيخ محمد عبده يسجل له الشيخ رشيد رضا أكثر من أربعين رسالة، ولنكتف منها بقوله من رسالة للشيخ إبراهيم اليازجي.

"وصل كتابك يحمل من العذر مقبوله، ويرتاد من الرضا مبذوله، ولقد كنت تعلم أني ما أردتك إلا لنفسك، فالحمد لله إذ أرجعك إليها، وله الشكر على ما عطفك عليها، وما أنا بالمقصر بك عما سألت، ولا الذاهب بك إلى خلاف ما طلبت، وغاية قولي لا تثريب عليك اليوم يغفر الله لك، وهو أرحم الراحمين، حياتنا شح روحها المحبة، والمحبة شبح الإخلاص، فما أسعد وقتًا ترى فيه حياتك منتعشة بروحها زاهرة بسر الإخلاص فيها، وليس بذاهب عنك أنك كما تكون يكون الناس لك، وأسأل الله أن ينفي عنك خواطر السوء، ويزيح عن روحك الطيبة وساوس الغرور، ويمن علي برؤيتك عند الغاية التي أحب لك، وسلامي عليك وحدك من بين أهلك، ولتكن مواصلتك دائمة السلام".

ونلاحظ على هذا الكتاب أنه بقلم رجل الدين المتأدب، فيه شيء من غلبة الفكرة على العاطفة، وفيه استشهاد بالقرآن، والحكمة، وفيه طبع رجل الدين الذي يؤثر الموعظة والهداية، وهذه ظاهرة نلمسها في معظم رسائله، وقد مرت بنا إحداهما من قبل حين كان سجينًا في أعقاب الثورة العرابية.

ومن رسائله التي يجدر أن ننوه بها لاتصالها بما نحن فيه تلك الرسالة، التي أرسلها إلى الشاعر حافظ إبراهيم حين أهداه ترجمته للجزء الأول من كتاب "البؤساء"، وقد كتب إليه حافظ يقول:

"إنك موئل البائس، ومرجع البائس، وهذا الكتاب - أيدك الله- قد ألم بعيش البائسين، وحياة البائسين وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور، وسماه كتاب البؤساء، وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة، وتلك الحكمة البالغة "الرحمة فوق العدل".

وقد عنيت بتعريبه لما بين عيشي، وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب، وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار، ورأيت أن أرفعه إلى مقامك الأسنى، ورأيك الأعلى، لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث: أولها التيمن باسمك، والتشرف بالانتماء إليك، وثانيها ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى الرجل الذي يعرف مهر الكلام، ومقدار كد الأفهام، وثالثها امتداد الصلة بين الحكمة الغربية، والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق، فليتقدم سيدي إلى فتاة بقبوله، والله المسئول أن يحفظه للدنيا والدين، وأن يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين.

<<  <   >  >>