لم يكن المنفلوطي من محترفي الرثاء، وإنما كان رجلًا ذا عاطفة جياشة، وشعور صادق، فهو لم يرث إلا صديقًا أو حبيبًا أو عالمًا جليلًا له قدره ومنزلته، أما رثاء الصديق فيتمثل في رثاثه للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وكان رثاؤه دمعة وفاء لذلك الذي قدر مواهبه، وفسح له في صحيفته، وفتح له باب الشهرة، وتشفع له في محنته لدى الخديوي، ورأى فيه المنفلوطي بعين المحب تلك المزايا والسجايا التي خفيت على كثير من الناس.
وكان في رثائة له من اللوعة وحرقة الحزن، وشدة العاطفة ما جعلت رثاءه ندبًا وبكاء فيقول في رثائة:"هكذا تقوم القيامة، وهكذا ينفخ في الصور، وهكذا تطوى السماء طي السجل للكتاب؟ أفيما بين يوم وليلة يصبح هذا الرجل الذي كان ملء الأفئدة والصدور، وملء الأسماع والأبصار، وملء الأرجاء والأجواء، جثة ضاوية نحيلة مدرجة في كفن، ملحدة في مهوى من باطن الأرض سحيق!!؟
"لقد كان هذا الرجل العزاء الباقي لنا عن كل ذاهب، والنجم المتلألئ الذي كنا نتنوره من حين إلى حين في هذه السماء المظلمة المدلهمة المقفرة من الكواكب والنجوم، والدوحة الخضراء التي كنا نلوذ بظلها من لفحات هذه الحياة وزفراتها، فنحن إن بكيناه فإنما نبكي الأمل الذاهب، والسعادة الراحلة، والحياة الطيبة، ومن هو أولى بالتفجيع والبكاء من سعادتنا وآمالنا؟؟؟!!.
ثم يروح يعدد من مواهب الشيخ علي يوسف، ومواقفه المشرقة، وحصافته السياسية، وكيف كان يعامل أصدقاءه وأعداءه وكيف كان كريمًا سخيًا مع من يعرف ومن لا يعرف ويقول:"وما رأيته في يوم من أيام حياته حاقدًا ولا واجدًا ولا منتقمًا ولا طالبًا بثأر، ولا ذائدًا عن نفسه إلا في الساعة التي يعلم فيها أن قد جد الجد، وأن قد أصبح عرضه وشرفه على خطر"، ويختم رثاءه بعد تلك الجولة في مزايا صديقه حين يبين عظم الفديحة فيه بمثل ما استهل به الرثاء من تلك العاطفة الحزينة الجياشة حيث يقول:"أيها الراحل الكريم: لقد كنت أرجو أن أجد بين جنبي بقية من الصبر أغالب بها هذا الحزن الذي أعالجه فيك حتى يبلى على مدى الأيام، كما يبلى الكفن لولا قدر أبعدني عن موطنك في آخر أيام حياتك، فحرمني جلسة أجلسها بجانب سريرك أسمع فيها آخر كلمة من كلماتك، وأرى آخر نظرة من نظراتك، وحال بيني وبين خطوة أخطوها تحت نعشك أجزيك فيها ببعض ما خطوت لي في حياتك من الخطوات الواسعات، ووقفة أقفها عند قبرك ساعة دفنك أذرف فيها على تربتك أو دمعة يذرفها الباكون عليك، فلئن بكيت موتك يومًا فسأبكي حرماني وداعك أيامًا طوالًا حتى يجمع الله بيني وبينك".
أما رثاؤه لأحبائه فيتمثل من رثائه لابنه "الدين الصغير"، وقد بلغت عاطفته فيه مداها، وكاد يفقد اتزان عقله، ويهتز إيمانه بالله لولا أن ذلك الإيمان قوي مكين سرعان ما عاد به إلى الله، فيستهل رثاءه بقوله: