للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"الآن نفضت يدي من تراب قبرك يا بني وعدت إلى منزلي كما يعود القائد المنكسر من ساحة الحرب، لا أملك إلا دمعة لا أستطيع إرسالها، وزفرة لا أستطيع تصعيدها.

ذلك؛ لأن الله الذي كتب لي في لوح مقاديره هذا الشقاء في أمرك فرزقني بل قبل أن أسأله إياك، ثم استلبنيك، قبل أن أستعفيه منك، قد أراد أن يتم قضاءه في، وأن يجرعني الكأس حتى ثمالتها، فحرمني حتى دمعة أرسلها أو زفرة أصعدها، حتى لا أجد في هذه ولا تلك ما أتفرج به بما أنا فيه، فله الحمد راضيًا وغاضبًا، وله الثناء منعمًا وسالبًا، وله مني ما يشاء من الرضا بقضائه، والصبر على بلائه".

ويروح المنفلوطي يذرف الدموع سخينة سخية على فقيده، ويتحسر على ما قدمه له من دواء مر لم يجده نفعًا، ولم ينقذه من العذاب والتعذيب، ويتذكر بموته موت ما سبق أن دفنه من أولاد، فيهيج الجرح الجديد الجراح القديمة، وكاد يبلغ من اليأس مداه، وقد عبر عن لوعته وشدة حزنه في عبارات تذوب أسى وشجى.

"ما أسمج وجه الحياة من بعده يا بني، وما أقبح صورة هذه الكائنات في نظري، وما أشد ظلمة البيت الذي أسكنه بعد فراقك إياه، فلقد كنت تطلع في أرجائه شمسًا مشرقة تضيء لي كل شيء فيه، أما اليوم فلا ترى عيني مما حولي أكثر مما ترى عينك الآن في ظلمات قبرك.

دفنتك اليوم يا بني، ودفنت أخاك من قبلك، ودفنت من قبلكما أخويكما، فأنا في كل يوم أستقبل زائرًا جديدًا وأودع ضيفًا راحلًا، فيالله لقلب قد لاقى فوق ما تلاقي القلوب، واحتمل فوق ما يحتمل من فوادح الخطوب.

لقد افتلذ كل منكم يا بني من كبدي فلذة، فأصبحت هذه الكبد الخرقاء مزقًا مبعثرة في زوايا القبور".

ثم يسأل سؤالًا يدل على عظم فجيعته، ونفاد صبره، وشدة لوعته، كاد به يتزعزع إيمانه فيقول: "لماذا ذهبتم يا بني بعد ما جئتم؟ ولماذا جئتم إن كنتم تعلمون أنكم لا تقيمون.

<<  <   >  >>