ذكرنا في مستهل هذا البحث عن المقالة الأدبية أن الناس سئموا أسلوب المقامة، إذا لم تنهض بمقتضيات العصر، لما فيها من تكلف ظاهر، وجرى وراء الكلمات بغية إحكام السجعة، ولو كانت كلمات حوشية، أو لا تفي بالغرض المقصود، وكان المعنى خاضعًا لتحكم هذه الأسجاع، وكثيرًا ما يستغلق وراء كثافة الألفاظ وكزازتها.
كما أنهم لم يجدوا في الأسبلوب الصحفي الذي ذاع على أقلام الكتاب ما يشبع الذوق الأدبي، أو يدخل في باب الأدب، لما فيه من ابتذال وعجمة، ومجانبة للفصاحة، وخطأ في متن اللغة وقواعدها، ولخلوه من الأناقة والخيال، وسحر العبارة؛ لأن صاحبه في العادة لا يتأنى في تحريره تأني الأديب، وإنما يسود صفحاته تسويد الصحفي العجل، وهو يعلم أنه سيقرأ لساعته، ثم يطرح جانبًا، وهو في الغالب يعالج موضوعًا من موضوعات الساعة في السياسة أو الاجتماع.
ولم يكن ثمة وسيلة في اصطناع اللغة العامية لغة للكتابة لمنزلة الفصحى من النفوس؛ ولأنها تحمل نفائس التراث الديني والعربي بكل ثقله ومقوماته؛ ولأنها فوق كل هذا لغة القرآن الكريم.
ولما ظهر المنفلوطي على صفحات المؤيد، وجد الناس في أسلوبه ما كانوا يفتقدون في أسلوب المقامة، وأسلوب الصحافة، فأعجبوا به كل الأعجاب، ووجدوا فيه الضالة التي ينشدون، ولنستمع إلى الأستاذ الزيات يصف لنا كيف استقبل المثقفون، ومحبوا الأدب مقالات المنفلوطي أول العهد بها:
"كانت الومضات الروحية الأخيرة للبارودي واليازجي، ومحمد عبده، وقاسم أمين، ومصطفى كامل والشنقيطي قد التمعت التماعة الموت لتنطفئ كلها متعاقبة في العهد الأول من عقود هذا القرن، فهيأت الأنفس والأذواق إلى أدب جديد كنا نفتقده فلا نجده، وكان إخواننا اللبنانيون في مصر وفي أمريكا قد فتحوا نوافذ الأدب العربي على الأدب الغربي فأرونا فنونًا من القول، وضروبًا من الفن لا نعرفها في أدب العرب، ولكنها كانت في الكثير الأغلب سقيمة التراكيب، مشوشة القالب، فأجمناها على نفاستها، كما أجمنا أساليب المقامات من الألفاظ المسرودة، والجمل الجوف، والصناعة السمجة، والمعاني الغثة، حينئذ أشرق أسلوب المنفلوطي على وجه "المؤيد" إشراق البشاشة، وسطع في أندية الأدب سطوع العبير، ورن في أسماع الأدباء رنين النغم، ورأى القراء والأدباء في هذا