ومن الموضوعات التي اهتم بها المنفلوطي في مقالاته الاجتماعية موضوع اللغة العربية، وقد رأى أن الهجمات قد اشتدت عليها من جهات كثيرة، من المستعمر الذي كان يمني نفسه بأن تتحول عنها إلى العامية حتى تنقطع بيننا وبين تراثنا وقرآنا وديننا الأسباب، وننسى حاضرتنا وتاريخنا وأمجادنا، فننصاع لتراهاته وسخافاته، وتقبل على ثقافاته، ومن بعض أذنابه الذين دأبوا على الترويج لما يقول، وقد شرحنا ذلك مدعومًا بالأدلة من أقوالهم في كتابنا الأدب الحديث دافع المنفلوطي عن اللغة العربية، ورد القول على من ادعى قصورها عن مقتضيات الحضارة الحديثة، وبين ان عوامل نموها كثيرة وبخاصة الاشتقاق، ويعجب من أن عرب الجاهلية بلغ بهم الترف اللغوي حدا وضعوا منه خمسمائة اسم للأسد، وأربعمائة للداهية وثلاثمائة للسيف، "ونحن نراها اليوم تضيق عن حاجتنا فلا نعرف لأداة واحدة من آلاف الأدوات التي يصنعها المعمل الواحد اسمًا عربيًا، اللهم إلا القليل التافة من أمثال: المسبر، والمبرد، والمشار، والمسمار".
وهو حينما يقول هذا، لا يعني الإزراء بها، والتحقير لها، وإنما يحاول جاهدًا أن يبعث فيها الحياة حتى تساير نهضتنا، وقد كمنت فيها عوامل نموها ورقيها، فرأى أن الحاجة ماسة إلى العناية الشديدة بأمرها، لا في مفرداتها فحسب، ولكن في أساليبها وتصفيتها من المبتذل الساقط، وقد أجمل رأيه بقوله: "إن كان الجاهليون في حاجة إلى مجتمع لتوحيد اللهجات المتشعبة، فنحن في حاجة إلى مجتمعات كثيرة: مجتمع لجمع المفردات العربية المأثورة وشرح أوجه استعمالها الحقيقية والمجازية في كتاب واحد يقع الاتفاق عليه والإجماع على العمل به، ومجتمع دائم لوضع أسماء للمسميات الحديثة بطريقة التعريب أو النحت أو الاشتقاق، وآخر للإشراف على الأساليب العربية المستعملة وتهذيبها وتصفيتها من المبتدل الساقط، والمستغلق النافر، والوقوف بها عند الحد الملائم للعقول والأذهان، وآخر للمفاضلة بين الكتاب والشعراء والخطباء، ومجازاة المبرز منهم والمقصر إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
قال المنفلوطي هذا قبل أن ينشأ مجمع اللغة العربية، وقبل أن ينشأ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وتخصص الجوائز العديدة لتشجيع المبرزين في مختلف الميادين، وإن دل هذا الرأي على شيء فإنه يدل على شدة حرصه على نهضة اللغة ومسايرتها للمدينة الحديثة، وبقاء أسلوبها عربية فصيحًا لا تشويه شوائب العجمة، والرقي بالأدب شعرًا ونثرًا.
وكما كان المنفلوطي شديد الحفاظ على اللغة كان كذلك شديد الحفاظ على الدين الإسلامي في سماحته، وقويم سلوكه، وكريم عاداته، وسامي أخلاقه، وعلى الرابطة التي تربط بين أهله إنه يريده نقيًا من شوائب البدع والآفات التي دست على بساطة عقيدته، ويريده قويًا بأهله الأقوياء.