ولننتقل إلى كتاب آخر لعلم من أعلام البيان في تلك الحقبة التي انتهت بنهاية القرن التاسع عشر، وبضع سنوات من القرن العشرين، قبل أن ينطلق النثر الأدبي من عقاله، ويحلق في آفاق واسعة، غير رازح تحت أي قيد من القيود، إلا ما اقتضاه الفن والتجويد.
ذلك الكاتب هو محمد المويلحي، وكتابه هو حديث عيسى بن هشام، وقد أتيح للكاتب من عوامل الوراثة والثقافة، والتجربة ما جعل الأدب يترقب منه عملًا مجيدًا حقًا، فأبوه إبراهيم المويلحي من تلاميذ جمال الدين، وصاحب جريدة "مصباح الشرق" التي كانت حدثًا أدبيًا عظيمًا إبان ظهورها سواء بموضوعاتها الشائفة، أو بأسلوبها الأدبي المتين، وهي تمثل ما وصلت إليه الصحافة الأدبية في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر من علو وسمو، وقدرة على النقد والتوجيه من غير تعرض لشخص الأديب وحرمانه، وإنما تتناول أدبًا تناولًا موضوعيًا بشيء كثير من الجرأة والحرية والبصيرة، ولإبراهيم المويلحي الكبير أثر غير منكور في تطور المقالة الصحفية والأدبية.
وإذا كان ابنه محمد لم يتح له من التعليم الرسمي غير ما تلقاه في المدرسة الابتدائية، فإن والده جلب له من الأساتذة في العربية، واللغات -شأن أبناء العلية في تلك الآونة- ما حبب إليه المعرفة، فصار يلتهم كل ما يقع تحت ناطريه من الكتب، وما كان أكثرها في بيت والده، ثم سافر مع والده إلى تركيا، ومكث بضع سنين أجاد فيها التركية، وقرأ ما ضمته بعض مكتباتها الشهيرة من كنور الثقافة العربية، وسافر معه إلى إيطاليا حين اختبر كاتم سر الخديوي إسماعيل بعد نفيه، وتعلم ثمة اللغة الإيطالية، مع إجادته للفرنسية، وإلمامه بالإنجليزية واللاتينية.
وإذا كان محمد المويلحي ممن يجمعون بين الثقافة العربية العميقة، والثقافة الغربية الحديثة، فلا يدع إذا جاء أدبه ممثلًا لامتزاج الثقافتين، وقد تجلى ذلك في حديث عيسى بن هشام الذي بدأ يكتبه منجمًا في جريدة "مصباح الشرق" منذ