على الرغم من أن كتابة المنفلوطي في الاجتماعيات والدين، والرثاء تتسم بالرشاقة والأناقة، وفيها كثير من قوة العاطفة حتى تكاد أن تلحق بالكتابة الأدبية إلا أن ثمة موضوعات كانت من قبل وقفًا على الشعر؛ لأن فيها مجالًا للخيال والعاطفية قد طرقها المنفلوطي، وارتفع فيه بأسلوبه عما ألقناه منه؛ ولأنها بعيدة عن معالجة شئون المجتمع، بل هي قطع وصفية قالها إشباعًا لحاسته الأدبية، واستجابة لمشاعره المرهفة مثل حديثه عن: الضمير، والجمال، والرحمة، والغد، والشعر.. إلخ، وإن لم يخل حديثه فيها عن موعظة سامعيه وقارئيه أداء لرسالته التي عاهد نفسه عليها.
ففي مقاله "الغد" يدور حول فكرة احتجاب الغد وما فيه من خير وشر عن أنظارنا وعقولنا، لكنه يوردها في صور متعددة:"الغد شبح يتراءى للناظر من مكان بعيد، فربما كان ملكًا رحيمًا، وربما كان شيطانًا رجيمًا، بل ربما كان سحابه سوداء إذا هبت عليها ريح بادرة حللت أجزاءها, وبعثرت ذراتها، فأصبحت كأنما هي عدم من الأعدام التي لم يسبق لها وجود".
"الغد بحر خضم زاخر يعب عبابه وتصطخب أمواجه، فما يدريك إن كان يحمل في جوفه الدر والجوهر، أو الموت الأحمر، الغد صدر مملوء بالأسرار الغزار تحوم حوله البصائر وتتسقطه العقول، وتستدرجه الأنظار، فلا يبوح بسر من أسراره إلا إذا جاءت الصخرة بالماء الزلال".
"كأني بالغد وهو كامن في مكمنه، ورابض في مجشمه، متلفع بفضل إزاره ينظر إلى آمالنا وأمانينا نظرات الهزء والسخرية، ويبتسم ابتسامات الاستخفاف والازدراء، يقول في نفسه: لو علم هذا الجامع أنه يجمع للوارث، وهذا الباني أنه يبني للخراب، وهذا الولد أنه يلد للموت، ما جمع الجامع، ولا بنى الباني، ولا ولد الوالد".
ثم يتكلم عن قدرة الإنسان على تذليل قوى الطبيعة في شتى مجالاتها في السماء والأرض والبحر، والنفس الإنسانية وذخائلها "حتى كاد يسمع حديث النفس، ودبيب المنى، واخترق بذكائه كل حجاب، وفتح كل باب، ولكنه سقط أمام باب الغد عاجزًا مقهورًا لا يجرؤ على فتحه، بل لا يجسر على قرعه؛ لأنه باب الله، والله لا يطلع على غيبه أحدًا".
ولكن لو علم الإنسان علم الغيب، وأطلع على ما يضمره الغد، أتراه يستريح ويسعد؟ يقول المنفلوطي في ختام مقالته: "لا ... لا، صن سرك في صدرك، وأبق لثامك على وجهك، ولا تحدثنا حديثًا واحدًا عن آمالنا وأمانينا، حتى لا تفجعفا في أرواحنا ونفوسنا، فإنما نحن أحياء بالآمال، وإن كانت باطلة، وسعداء بالأماني، وإن كانت كاذبة.
وليست حياة المرء إلا أمانيا ... إذا هي ضاعت فالحياة على الأثر