للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وليس في هذا المقال فكرة فلسفية عميقة يوحي بها الحديث عن الغد، وإنما هي صور متباينة لمعنى واحد، ومع ذلك تبلغ في طلاوتها وسمو عبارتها ما بلغته عبارة "شوقي" في حديثه عن العد بكتابه "أسواق الذهب"١.

ولعل طبيعة الموضوع وقف دون تحليقه في مجالات الخيال، مع أن ثمة منافذ للخيال في موضوع الغد، وحالت تبعًا لذلك دون سمو عبارته.

ولستمع إليه في موضوع وصفي خالص، وهو "مناجاة القمر" حيث يقول في مستهله:

"أيها الكوكب المطن من علياء سماته، أأنت عروس حسناء تشرف من نافذة قصرها، وهذه النجوم المبعثرة حواليك قلائد من جمان؟ أم ملك عظيم جالس فوق عرشه، وهذه النيرات حور وولدان؟ أم فص من ماس يتلألأ وهذا الأفق المحيط بك خاتم من الأنوار؟ أم مرآة صافية، وهذه الهالة الدائرة بك إطار؟ أم عين ثرة ثجاجة؟ وهذه الأشعة جداول تتدفق؟ أو تنور مسجور، وهذه الكواكب شرر يتألق".

وهو في هذه الاستهلال لمناجاته يعمد إلى العبارة الموشاة بالسجع والألفاظ المنتقاة، وبالخيال التفسيري المعتمد على التشبيه، وإن جاء خيالًا حسيًا وتشابيه من المنظورات.

ونراه بعد ذلك يربط بين نفسه وبين القمر، ويعقد موازنة لحاليهما من حيث الوحدة، والظهور في الظلمة، والأنس بالليل ووحشته ثم يقول: "يراني الرائي فيحسبني سعيدًا؛ لأنه يغتر بابتسامة في ثغري، وطلاقة في وجهي ولو كشفت له عن نفسيي، ورأى ما تنطوي عليه من الهموم والأحزان لبكى لي بكاء الحزين إثر الحزين، ويراك الرائي فيحسبك مغتبطًا مسرورًا؛ لأنه يغتر بجمال وجهك، ولمعان جبينك، وصفاء أديمك، ولو كشف عن عالمك لرآه عالمًا خرابًا وكونًا يبابا"، وفي هذه الموازنة لغة رومانسية جميلة، صيغت في عبارة سامية، زادها السجع غير المتكلف رونقًا.


١ انظر ما تقدم عند الكلام عن شوقي في هذا الكتاب.

<<  <   >  >>