وتوفيق البكري من هؤلاء الذين واتتهم الفرصة ليجددوا في الكتابة، ولكن حالت بينهم وبين التجديد عوائق، فالبكري كان نقيب الأشراف، ورئيس المشيخة البكرية، ومشيخة المشايخ الصوفية، وقد تلقى التعليم المدني وعرف اللغات الأجنبية، ثم شاء له طموحه وما كان يعد نفسه له أن يدرس علوم الأزهر، وينال إجازته، وقد حرص على التزود من ذخائر الأدب العربي وحفظ الكثير منها، إذ كان محبًا للأدب ولو عابه، ويقول عن نفسه:"أما العلم فقد اختصصت منه بعلم الأدب، والاختصاص سر النجاح؛ لأن العلم يعطيك من نفسه بقدر ما تعطيه من نفسك".
وإذا درسنا مؤلفات البكري وقفنا على نوع الدراسة التي كونت عقله، وأثرت في أسلوبه، فمن هذه المؤلفات:"أراجيز العرب" جمع فيه مختارات من هذه الأراجيز وشرحها شرحًا وافيًا، ومن المعروف أن أصحاب الأراجيز كالعجاج وابنه رؤبة، ومن على شاكلتهما كان لهم ولع بالغريب حتى صارت
منبعًا لعلماء اللغة، ومرجعًا للأدباء والشعراء.
ومن مؤلفاته كذلك "فحول البلاغة"، وهو مختارات من شعر العصر العباسي الأول، شرحها وعلق عليها فلا عجب إذا رأينا البكري -وكان على حظ كبير من الذكاء- يجنح إلى القديم، وكأنه كان يطمح أن يكون في كتابته كابن العميد أو الصاحب بن عباد، أو أبي بكر الصولي، ومن على شاكلتهم من كبار كتاب العصر العباسي.
ولقد حشد البكري كل طاقته الفنية في كتابه صهاريج اللؤلؤ، ولكنه كان فيه شديد التزمت، والتمسك بتقاليد العرب، قد جاء هذا من جهتين: من جهة حسبه ودينه، وكان يعتز بهما كل الاعتزاز على حد قوله:
وإني من البيت الذي تعلمينه ... أقام عمود الدين لما تأوَّدا
وأول هذا الأمر نحن أساته ... وآخره حتى يكون كما بدا