عرفنا فيما تقدم من هذا الكتاب أن كثيرين ممن كانوا يحاكون أسلوب المقامة في مستهل حياتهم الأدبية والكتابية ويؤثرون السجع، والزخارف البديعية على الترسل قد هجروا السجع، واتجهوا نحو الأسلوب المرسل في أخريات حياتهم، مواكبين بذلك التطور الفكري للأمة من أمثال: أديب إسحاق، ومحمد عبده، وعبد الله نديم، وحفني ناصف.
ولما قوي تيار الثقافة الغربية في فترة الاحتلال، وفرض المحتل لغته في مدارسنا يتلقى بها الطلبة جمع دروسهم ما عدا اللغة العربية، نشأ جيل يجيد الإنجليزية، ويقرأ آثار آدابها وأعلام الفكر فيها، كما أن الثقافة الفرنسية كان لها أنصارها والمعجبون بنتاجها الأدبي، ولم يعد هؤلاء المثقفون بالثقافة الحديثة يرضون ذلك الأسلوب المقيد بالسجع والزخارف، والوقوف عند حد الألفاظ، وإنما أرادوا أن يكون المقال غذاء للفكر والذوق معًا، وأن يخصب ذهن القارئ، ويوسع آفاقه، ويحفزه على التفكير.
وما إن خطا القرن العشرون في سنيه الأولى خطوات، حتى كاد يختفي هذا النثر المسجوع إلا عند فئة قليلة محافظة، وفي تلك الفترة اشتدت الحملة على اللغة العربية الفصحى، ودعا المستعمرون حملة الأقلام للكتابة باللغة العامية، وشايعهم بعض المثقفين ثقافة غربية محاولين تقليد الأمم الغربية التي هجرت اللاتينية إلى لهجاتها المحلية كالفرنسية، والإيطالية، والأسبانية، وبحجة أن اللغة العربية تقف بينهم وبين الانطلاق الفكري، والتعبير الصادق عن مشاعرهم، وقد حاول بعضهم أن يتخذ اللغة العامة أداء للتعبير مثل محمد عثمان جلال حين عرب بعض مسرحيات موليير وراسين، وخرافات لافونتين، ودعا مثل هذه الدعوة بعض الأدباء السوريين المسيحيين، بيد أن هذه الدعوة أخفقت؛ لأن المستعمر احتضنها وروج لها على نحو ما وضحناه في كتابنا "الأدب الحديث"،