ماس، أو مرمر نحته فدياس، وعيون كأن بين أهدابها رام من بني ثعل أو أسد بين طرفاء وأسل، أو أنها نرجس عطشان أو سيوف تقتل وهي في الأجفان. وقد امتزج فيها الفتر بالحور، فهي سكرى ولا مدام، ووسنى ولا منام، وفم كأنه أقحوانة لم تتصوح، ووردة لم تتفتح، يضحك عن جمان، ويتنفس عن ربحان وينطق عن ألحان وخدود كنار أخدود، أو تفاح أو ماء وراح، أو الشفق في الصباح، ورد يفتحه النظر، ويشعشعه الخفر".
ونراه قد وفق في بعض أوصافه وأخفق في بعضها، ولنذكر بعض ما أخفق، فأي فتاة تحب أن يوصف صدرها بأنه كطلع النخل أو صدر الصقر، وبأن عيونها كرام من بني ثعل أو أسد بين طرفاء وأسل، تلك أوصاف قديمة منتزعة من بيئة متبدية صحراوية لا تتناسب مع موصوفه، وقد جرت على شباة قلمه من محفوظه حتى غلبت شاعريته وأزرت بها، بينما نراه يوفق في كثير، والمووضع كله جديد حقا في الأدب العربي.
ومن نثره الذي كان يجب أن يقوله شعرًا، ووصفه لغاية "بولونيا" بجوار باريس، وهو في وصفه يستخدم كذلك الأوصاف القديمة أحيانًا والجديدة أحيانًا، ولكنه في عمومه يغص بخطراته الشعرية، ولو أطلق لنفسه العنان، ولم يتزمت ذلك التزمت ويلتزم ما التزمه من إيثاره الغريب على المألوف لأتى من خير ما كتب في النثر الحديث، فقد ألم فيه بوصف باريس، والغاية وما بها من مياه وأشجار وأزهار، وبصفها حين جن الليل، وحين ألقى عليها القمر رداءه الفضي، ويصفها في إشراق الصباح، ويتكلم عن حديقة الحيوان، وما فيها من أسود وفيلة، وظباء وحمر وحش وحيات ونوق في أرض الفرنجة، وتراه أحيانًا ينفذ بخياله فيخترق الحجب، ويحلق في سموات الشعر، وإذا بأسلوبه يجذبه إلى أدنى فيعوقه عن التحليق.
ذلك هو البكري جنى عليه محفوظة حتى كاد يطمس شخصيته، ويميت شاعريته، كما جنى عليه تزمته واعتزازه بمنصبه وحسبه ونسبه، مع أنه شاعر وناثر، لقد كان طرازًا مستخلفًا من الماضي، وإن عاش في الحاضر وحاول تصويره، فجمع بين القديم والجديد، وإن غلبه القديم على أمره.