على أن أهم موضوع حظى من المنفلوطي بعنايته، وحشد له كل عواطفه وحماسته، وإخلاصه ودينه هو موضوع الفاقة والبؤس والفقر تلك التي كان يتردى فيها سواد الشعب، وقد قرب في معالجته لهذا الداء المستفحل إلى حد الاشتراكية، وإن لم يدركها تمام الإدراك، ولا بد للتمهيد لهذا الموضوع حتى نعرف الأسباب التي دفعت المنفلوطي دفعًا في هذه الطريق.
ابتدأ المنفلوطي يدبج مقالاته في المؤيد منذ أواخر سنة ١٩٠٧ أي بعد حادثة دنشواي بقليل، تلك الحادثة الفظيعة التي دلت بوحشيتها على مبلغ ما وصل إليه الاستعمار الإنجليزي من سيطرة وجبروت انتهك فيها حرمات الإنسانية علانية.
وقد بلغ رد الفعل في نفوس المصريين ذروته، وانتفضت مصر انتفاضة جريئة بقياة مصطفى كامل، ورجال الحزب الوطني على الاستعمار ورجاله حتى ترضت إنجلترا الشعور العالمي بعامة، والمصري بخاصة بإخراج "كرومر" الداهية من مصر.
كان الاحتلال قد جثم على صدور المصريين رفع قرن تسللت خلاله في أول الأمر مظاهر العزة من النفوس إلى أن ظهر رجال الحزب الوطني، وعلى رأسهم مصطفى كامل في الأفق، وحاولوا أن يعيدوا للمصريين الثقة بأنفسهم، ويحاربوا الاستعمار حربًا قوية ليهزوا مكانته بمصر.
وكان الاستعمار قد اصطنع كثيرًا ممنا باعوا ضمائرهم في سبيل المال والجاه، وتكونت منهم مع الأسرة الحاكمة ورجالها المقربين، وأقربائها طبقة السادة أو الإقطاعيين أصحاب المزارع الواسعة، الذين كانوا يتحكمون في رقاب الملايين من الفلاحين، ويسومونهم الخسف وسوء العذاب، ويمتصون دماءهم, ويستغلون قواهم استغلالًا فاحشًا، ويتركونهم في حالة مزرية من الفقر والجهل والمرض.
لقد كان التفاوت بينا هذه الفئة القليلة الثرية، وبين سواد الشعب في كل مظاهر الحياة، فلا بدع إذا أحسن الأدباء ذوو الضمائر الحية والعاطفة القوية بعظم مأساة هذا الشعب، وحاولوا جهدهم أن يصوروا آلامة المبرحة التي طال عليها الأمد قرونًا طويلة، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وكان المنفلوطي من أبناء الطبقة المتوسطة لا يعد بأي حال من الأثرياء بل كان أدنى إلى الفقر منه إلى الغنى، عاش في الريف وخالط الناس، وعرف أوصالهم الاجتماعية، وكان جياش العاطفة سريع العبرة، ينفذ إلى سويداء قلبه بكاء المحزونين، ونداء المكروبين، ولنستمع إليه بصور لنا نفسه وما حفزه على الإكثار من وصف مناظر البؤس، والشقاء حتى في مطالعاته بل تجاربه حيث يقول: