للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"ولا أدري ما الذي كان يعجبني في مطالعاتي من شعر الهموم والأحزان، ومواقف البؤس والشقاء، وقصص المحزونين والمنكوبين خاصة، كأنما كنت أرى الدموع مظهر الرحمة في نفوس الباكين، فلما أحببت الرحمة أحببت الدموع لحبها، أو كأنما كنت أرى أن الحياة موطن البؤس والشقاء، ومستقر الآلام والأحزان، وأن الباكين هم أصدق الناس حديثًا عنها وتصويرًا لها، فلما أحببت الصدق أحببت البكاء لأجله، أو كأنما كنت أرى أن بين حياتي وحياة أولئك البائسين المنكوبين شبهًا قريبًا، وسببًا متصلًا، فأنست بهم، وطربت بنواحهم طرب المحب بنوح الحمائم وبكاء الغمائم، أو كأنما كنت في حاجة إلى بعض قطرات من الدمع أتفرج بها مما أنا فيه، فما بكى الباكون، وبكيت لبكائهم وجدت في مدامعهم شفاء نفس وسكون لوعتي، أو كأنما أرى أن جمال العالم كان في الشعر، وأن الشعر، هو ما تفجر من صدوع الأفئدة الكليمة فجرى من عيون الباكين من مدامعهم، وصعد من صدورهم مع زفراتهم".

وهكذا وجدت حالات البؤس والشقاء، وما كان أكثرهما في مصر حينذاك -تجاوبًا شديدًا في نفس المنفلوطي وصدى إيجابيًا في عاطفته، فإذا أضفنا إلى ذلك شدة إعجابه بالأدب الرومانسي المترجم ذي الطابع الحزين، وذي العاطفة الحادة، تأثره به وترجمته له، لا تعجب إذا كان من أهم سمات أدب املنفلوطي هي تلك المسحة الحزينة، والعاطفة الباكية.

ولم يكن من المنتظر في تلك الحقبة أن تتجه الحكومة -وهي خاضعة لدولة استعمارية رأسمالية- وجهة اشتراكية، أو ديمقراطية صحيحة، وبخاصة وعباس الثاني على عرش مصر، وهو من هو في شراهته وحبه للمال، وإغارته على أموال الأوقاف، والاستكثار من عرض الدنيا على حساب الألوف المؤلفة من أبناء الشعب، لقد كان الأغنياء يزدادون كل يوم غنى، بينما يزداد الفقراء كل يوم فقرًا، ولم يكن يملك أصحاب الأقلام في تلك الآونة إلا أن ينادوا ضمائر الأثرياء، وذوي الجاه علها تستيقظ من سباتها العميق، وتفيق من سكرات الترف والنعمة، فتلتفت إلى المنكوبين والمحرومين والكادحين في الأرض، وتمد الأيدي بالإحسان.

<<  <   >  >>