للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[البيان في رأي المنفلوطي]

قبل أن نصدر حكمنا على أسلوب المنفلوطي ومنزلته في عالم النثر، يجدر بنا أن نبين رأيه الذي ارتضاه لنفسه في كتابته، وحاول أن يحمل الناس عليه في الأسلوب الكتابي، يقول:

"جهل البيان قوم فظنوا أنه الاستكثار من غريب اللغة، ونادر الأساليب، فأغصوا به صدور كتبهم، وحشوها في حلوقها حشوا يقبض أودجها، ويحبس أنفساها، فإذا قدر لك أن تقرأها، وكنت ممن وهبهم الله صدرًا رحبًا، وفؤادًا جلدًا، وجنانا يحتمل ما حمل عليه من آفات الدهر وأرزائه، قرأت متنًا مشوشًا من متون اللغة، أو كتابًا مضطربًا من كتب المترادفات".

وجهله آخرون فظنوا أنه الهذر في القول، والتبسط في الحديث، واقعًا ذلك من حال الكلام ومقتضاه حيث وقع، فلا يزالون يجترون بالكلمة اجترار الناقة بجرتها، ويتمطقون بها تمطق الشفاه بريقتها حتى تسف وتبتذل، وحتى ما تكاد تسيغها الحلوق، ولا تطرف عليها العيون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا".

فالبيان في رأيه ليس بالتشدق بالكلمات المعجمية، على طريقة كتاب المقامات منذ عهد الحريري حتى مطلع القرن العشرين، وليس كذلك بالتبذل بالكلمات السوقية التي لاكتها الألسنة، والأقلام حتى أسفت كالعملة الحائلة اللون ويقول: "ليس البيان إلا الإبانة عن المعنى القائم في النفس وتصويره في نظر القارئ، أو مسمع السامع صحيحًا لا يتجاوزه، ولا يقصر عنه، فإن علقت به آفة من تينك الآفتين فهو العي والحصر".

والبيان في رأيه كذلك: "هو النظم والنسق والانسجام، والاطراد والرونق، واستقامة الغرض، وتطبيق المفصل، والأخذ بمجامع الألباب، وامتلاك أزمة الأهواء".

ويشترط للكتاب الحق أن يكون صادقًا مع نفسه: "فذلك ما تراه في رسائل النظرات منتثرًا ههنا وههنا، وقد شعر به قلبي، ففاض به قلبي من حيث لا أكذب الناس عن نفسي، ولا أكذب نفسي عنها".

<<  <   >  >>