ومن ذوي الشهرة في كتابه الرسائل في هذه الحقبة الشيخ أحمد مفتاح، وقد تخرج في دار العلوم سنة ١٨٨٥، واشتغل بالصحافة والكتابة فيها زمنا، ثم اتصلت أسبابه بالسيد توفيق البكري، فصار معلمًا له، ثم صار مدرسًا للإنشاء بدار العلوم، وأقام بها سنتين وقد ترك عدة مؤلفات كلها تدل على تمكنه في اللغة، وعنايته بالكتابة وله وسائل عدة في مختلف الأغراض تنم كلها عن ذوق أدبي طيب، وعن قوة في الأداء، واهتمام بالصياغة والموسيقى: وكثيرًا ما تتضمن جملًا متتابعة خالية من السجع، كما كان يكثر من الإشارات التاريخية على طريقة ابن زيدون.
وهاكم رسالة في التعارف قبل اللقاء، وقد أوردتها لنتبين الفرق بينها، وبين رسالة الشيخ عبد الكريم سلمان في الغرض نفسه، يقول الشيخ مفتاح:
"لم أكن فيما أكتبه إليك إلا ساريًا في ليل التعارف على ضياء خلالك، والتي أملاها على لسان المدح، الذي شرق وغرب وطبق الأرض صبيته، وإني وإن لم
أكن أسعدت من قبل باجتلاء طلعتك الزاهرة، واجتناء مفاكهتك الغضة، فقد دلني على الليث زئيره، وعلى البحر خريره، وعلى العقل أثره، ولئن لم تجمعنا
لحمة النسب، فقد جمتنا حرفة الأدب، أو لم يضمنا قبل مصيف ومرتبع، فالطيور على أشكالها تقع، وشبه الشيء منجذب إليه، وأخو الفضائل هو المعول عليه.
وهذه الرقعة، إذا وصفت لك بعض ما أنا مطوي عليه من التهافت على رؤتيك، والميل إلى صداقتك، فقلما تنوب عن المشافهة، أو تقضي حاجات في النفس طالما تردد صداها، وفي ظني أن -سيدي- يود ما أوده وعما قليل يسفر الصبح عن اللقاء، ونتجاذب أهداب المعرفة، وأرى من سيدي فوق ما توسمنه، ويرى مني ما يرضيه والسلام".
وهنا كما ترى فرق في التعبير، ففي حين نرى الشيخ عبد الكريم يعبر عن عدم اللقاء الشخصي حتى آونة الكتابة بقوله:"وهذه أول رسالة أكتبها إلى من تكن لي به جامعة جسمية، ولم تضمني وإياه حفلة تعارف شخصية"، يقول الشيخ مفتاح:"وإني وإن لم أكن أسعدت من قبل باجتلاء طلعتك الزاهرة، واجتناء مفاكهتك الغضة"، وبينما يفصل الأول في مزايا من يكتب إليه بأنه له "أثارًا شهدناها، فاستفدناها، ومآثر سمعناها فرويناها، أو تناقلناها" يعمد الثاني إلى التعميم عن طريق الخيال والمجاز فيقول: "قد دلني على الليث زئيره وعلى البحر خريره، وعلى العقل أثره ... إلخ" ولا شك أن الثاني أقوى، وهكذا لو رحت توازن بين القطعتين لوجدت أن الشيخ مفتاح كان يكتب بقلم أديب متمكن في صنعته، وذواقة مرهف الحس لموضع الكلام، وأما الشيخ سلمان فتلمح في رسالته سمة العلماء على الرغم من قوة أدائه، وحسن تأدبه.