ورأى الناس فيها خطرا على شخصيتهم وتراثهم العميق الشامخ، كما رأوها غير بريئة من الهوى؛ لأن المستعمر أراد أن ينسي الناس دينهم ولغة قرآنهم، وتنقطع الصلات بينهم وبين ماضيهم المجيد، فكان العاملان الديني والسياسي سببًا في الإقلاع عن هذه الفكرة المغرضة، وثمة سبب ثالث وهو أن الأدباء أنفسهم رأوا أن الفصحى ملك أيمانهم، وأنهم استطاعوا إلى حد ما أن يعبروا بها عن مقتضيات الحضارة والفكر الغربي وبخاصة في العلوم الإنسانية، وأنها ليست عائقًا عن مجاراة الثقافة الغربية، بل تزداد كل يوم قوة لمرونتها، وكثرة مفرداتها وقدرتها على النمو لما فيها من خصائص لا تنكر تساعدها على الازدهار.
ولما لم يكن في الإمكان الرجوع إلى الأسلوب القديم الموروث عن المقامة، ولا الالتجاء إلى العامية كان لزامًا أن يبحث الأدباء عن أسلوب آخر تظهر فيه شخصية الأديب، ولا يطفي عليه محفوظه القديم وتقليده له، ويرضي في الوقت نفسه الحاسة الفنية والأذواق الأدبية لدى القراء.
ولا يعنينا هنا تتبع الأسلوب الصحفي أو السياسي الذي يكتب على عجل ويقرأ لساعته، ويخاطب الجماهير، وإنما نبحث في الأسلوب الأدبي الذي يتميز بسمات فنية ذكرناها آنفًا في هذا الكتاب، وقد ظهر هذا الأسلوب الجيد بأناقته وطرافته لا على يد هؤلاء الذي تثقفوا ثقافة غربية واسعة، وإنما على يد شيخ أزهري أديب هو مصطفى لطفي المنفلوطي في مقالاته التي ابتدأ يكتبها للمؤيد منذ سنة ١٩٠٧ تحت عنوان النظرات.