للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أهله هذا الحسب ليتولى هذه المناصب الدينية الكبيرة، فكان من المتوقع أن يكف من غرب بيانه، فلا يدعه يجري على سجيته، وإنما يراعى طبيعة منصبه وحسبه ودينه، والجهة الثانية كثرة محفوظة من التراث العربي القديم، ومع أن البكري كانت له طبيعة الفنان، وكان على حظ من الثقافة الحديثة، وشاهد أوروبا مرارًا، ووقف على حضارتها كما ينبئنا كتابه هذا الذي ندرسه، إلا أننا نحس بأنه كأن في صراع عنيف بين حاسته الفنانة، وبين حنينه إلى القديم.

وصهاريج اللؤلؤ هو ذلك الكتاب الذي أودعه السيد توفيق البكري ما قاله من شعر ونثر أدبي، وتكلف فيه تكلفًا شديدًا، وحرص على أن يباهي فيه بمحفوظه من التراث العربي القديم، ولا سيما الأمثال، والحكم والإشارات التاريخية، والحكايات والنوادر وأن يباهي فيه بإطلاعه الغزير على غريب اللغة على نمط ما كان يفعل كتاب المقامات، ولكن الفارق بينه وبينهم أن البكري كان يحاول في اختيار موضوعاته أن يمثل عصره وآراءه وحضارته، وأنه لم يكن يحكي قصة تنقصها الحبكة الفنية، وإنما كان يكتب مقالة مسجوعة في موضوع أقرب إلى الشعر منه إلى النثر، وأنه كان يوفق في بعض أجزائه حتى ليحلق من سموات الخيال البديع، ويقدم باقة من الشعر المنثور.

وكان من الممكن ألا يجني الأدب القديم على البكري، لو أنه تخفف من تزمته، وأفاد مما قرأ ووعي من غير أن يفقد شخصيته، ومن غير أن يتكلف التوعر والفخامة، واقتناص الأمثال الشاردة والألفاظ الغريبة، حتى يكاد يستغلق على القارئ، ولقد عني بشرح الكتاب، وجاء الشرح أكبر من الأصل حجمًا، ولا تكاد كلمة منه تمر بدون شرح أو تعليق؛ لأنها في الواقع محتاجة إلى الشرح والتعليق، وقبل أن أمضي في ذكر موضوعات الكتاب، ودراسة نثره أسوق هنا مثلًا واحدًا ظاهرًا يدلنا على أنه يسوق الأمثال بعضها وراء بعض لا؛ لأنها ضرورية لتوضيح المعنى، ولكن ليظهر بها وفرة محمولة، وغزارة مادته، كما كان يفعل بعض أصحاب المقامات، استمع إليه يتكلم عن مولود فيقول:

<<  <   >  >>