للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"وكأني به وقد شدا يلعب بالكرة، كما يلعب الصبي بالكرة"، وإذا هو "أجود من حاتم"، و"أبأى من حنيف الحناتم"، و"أحزم من سنان"، و"أعدل من الميزان"، و"أحمى من مجير الظعن"، و"أعقل من ابن تقن"، و"أحيا من كعاب" و"أحلم من فرخ عقاب"، و"أجمل من ذي العمامة"، و"آثر من كعب بن مامة"، و"أجسر من قاتل عقبة"، و"أحكم من هرم بن قطبة"، و"أبطش من دوسر"، و"أجرأ من قسور".

فهل ثمة إنسان، اجتمعت له كل هذه المزايا، وبلغ الدرجة العليا في هذه الصفات جميعها، اللهم لا، وبخاصة غذا كان هذا الموصوف مولودًا لم يعرف من الدنيا شيئًا، وإنما ساق البكري كل هذه الأمثال وحشدها حشدًا تباهيًا وتعالمًا، أو للإفادة على طريقة أصحاب المقامات.

ومن الغريب أنك إذا وازنت بين نثر البكري وشعره، وجدته لا يعمد في شعره إلى الغريب إلا في النادر على حين يغص نثره بهذا الغريب، ولعه وجد أن الشعر لا يحتمل مثل هذه الألفاظ الوعرة المطمورة في ثنايا المعاجم، وأنه مقيد بالوزن والقافية، أما النثر فأمامه متسع لأن يغير ويبدل ويضع الكلمة التي يريدها، وقد يعينه هذا الغريب على طريقته التي آثرها في الكتابة، وهي طريقة السجع.

وعلى الرغم من أن البكري كانت لديه الموهبة الشعرية كما تدلنا القصائد القليلة التي تضمنها الكتاب، إلا أنه آثر النثر على الشعر، وكأنه كان يخشى أن ينسب إلى الشعراء، وفكان يقول بقدر، وإذا قال أوجز، وكأنه كان يخاف أن يغض الشعر من شأنه، وهو من هو في محتده ومنصبه وحسبه ونسبه، وليست الكتابة في رأيه كذلك، وبخاصة تلك التي تصاغ في قالب الرسائل بين الأكفاء، وليسمن المفروض أن يطلع عليها القراء إلا إذا وقفوا عليها صدفة، أو كما يقول الأستاذ العقاد: "أطلعهم عليها أديب من محترفي الصناعة يتولى هو تقديمها، وشرحها كما جرى في كتاب صهاريج اللؤلؤ".

<<  <   >  >>