للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وفي الحق أن في نثر البكري شعرًا لا ينقصه إلا الوزن، فكثير من الموضوعات التي طرقها لا تصلح إلا للشعر، وقد استطاع على الرغم من هذا التكلف والتزمت وإيثاره الغريب، وحشده للأمثال والحكم والإشارات التاريخية والعبارة المسجوعة أن يقبس من سموات الخيال الشعري قبسات مشعة، وأن يمثل عصره في فكرته لا في عبارته، وفي خياله لا في صياغته.

وإذا استعرضنا موضوعات الكتاب وجدنا أول موضوع هو وصف رحله إلى القسطنطينية عاصمة الخلافة، وفيها وصف للسفينة والبحر والليل والقطار والبسفور، ونساء الأتراك، ومتنزهات المدينة ومساجدها، وهي كلها من الموضوعات التي يصح أن يخوض فيها شاعر مرهف الحس ذو خيال، ولم يتعرض البكري لوصفها إلا؛ لأنه يملك هذه الحاسة الفنية، ويملك الخيال الذي يصور به مشاعره، ولكنه كما قلنا كان يؤثر النثر على الشعر حتى لا يغض من منزلته.

ولنستمع إليه في رحلته هذه يصف السفينة، والبحر:

"فجرى بنا الفلك في خضم عجاج، ملتطم الأمواج، أخضر الجلد، كأنه إفرند، بحر عباب، لا يقطعه الخليل بأوتاد وأسباب، تصطخب فيه النينان، وتضطرب الدعاميص والحيتان، وأخذت السفينة تشق اليم، شق الجلم، في ربح رخاء أو زعزع ونكباء، فهي تارة في طريق معبد وميث مطرد، وطورًا فوق حزن وقردد وصرح ممرد، فبينما هي تناب كالحباب، إذا هي تلحق بالرباب، وتحلق كالعقاب، فتحسبها تارة تحت القتام جيلًا تقشع عنه الغمام، وتخالها مرة عائمًا على شفا، قد غاب، إلا هامة أو كتفًا، والبحر آونة كالزجاج الندى، أو السيف الصدى يلوح كالصفيحة المدحوة، أو المرآة المجلوة، وحينما يضرب زخارة، ويموج مواره فكأنما سيرت الجبال وكأنما ترى قبابًا فوق أفيال، وكان قبورًا في اليم تحفر، وألوية عليه تنشر، وكأن العد بمخض عن زبد، وكان الدوي من جرجرة الآذى زئير الأسد وهزيم الرعد.

يكب الخلية ذات القلا

... ع وقد كاد جؤجؤها ينحطم

<<  <   >  >>