للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فإذا كان الأصيل، وسرى النسيم العليل، رأيت البحر كأنه مبرد، أو درع مسرد، أو أنه ماوية، تنظر السماء فيها وجهها بكرة وعشية، وكأنما كسر فيه الحلى، أو مزج بالرحيق القطر بلى، وكأنما هو قلائد العقيان، أو زجاجة المصور يؤلف عليها الأصباغ والألوان ... إلخ".

وتلحظ على هذه الفقرة المنتزعة من موضوعه الطويل في وصف رحلته إلى القسطنطينية أنه يكثر فيها من استخدام الكلمات غير المألوفة كالنيان جمع نون وهو الحوت، والدعاميص، والجلم وهو المقص، والقردد وهي الأرض الصلبة، ونلحظ ثانية ولعه بالتشابيه الكثيرة تتعاور على مشبه واحد، ونراه يوفق أحيانًا في هذه التشابيه، وأحيانًا يخونه بيانه، ومع هذا فنلمح بوضوح مزاج الشاعر وخياله، وإن كان كل خياله من الضرب التفسيري الذي يعتمد على التشبيه والاستعارة، وإذا نظرنا إلى مهمة التشبيه في الأدب وجدناه لا يقصد لذاته كما يوجد في كثير من كلام البكري، وإنما يوجد لنقل مشاعر الكاتب، وعاطفته إلى القارئ أو يوضح له حالة أو يبين حقيقة، فالتشبيه لا بد أن يكون مقرونًا بعاطفة، وإلا كان كالألوان التي توضع على لوحة الرسام من غير حساب، فتعمل على تشويهها بدلًا من تحسينها.

ونلاحظ كذلك أن البكري لا يكتب لعامة الناس، ولا للطبقة الوسطى من المثقفين، وإنما يكتب لخاصة الخاصة، ولا يشفع له قوله في مقدمة الكتاب: "وأنا أعلم أن من الأدباء اليوم من ينفر من الغريب، ولا ينفر من الدخيل، لاستيلاء العجمة على هذا الجيل، فلم يثنني ذلك عن أن أودع كلام الأعراب بهذا الكتاب".

ولنستمع إليه يصف الليل وهو على ظهر السفينة، وماذا عسى أن يرى الناظر بالليل، والبحر أمامه ساكن أسود، وستر الليل يحجب عنه الدنيا والسفينة ماضية في طريقها لا تخشى ضيرًا، ولا تلوي على شيء، ولا نسمع إلا جرجرتها وهدير الأمواج من حولها كأنها تتألم من وقع خطاها، ولكن البكري كان شاعرًا، والشاعر يرى ما لا يراه فيقول:

<<  <   >  >>