"السجع شعر العربية الثاني، وقواف مرنة ريضة، خصت بها الفصحى، يستريح إليها الشاعر المطبوع، ويرسل فيها الكاتب المتفنن خياله، ويسلو بها أحيانًا عما فاته من القدرة على صياغة الشعر، وكل موضع للشعر الرصين محل السجع، وكل قرار لموسيقاه قرار كذلك للسجع، فإنما يوضع السجع النابغ فيما يصلح مواضع الشعر الرصين، من حكمة تخترع أو مثل يضرب، أو وصف يساق وربما وشيت به الطوال من رسائل الأدب الخالص، ورصعت به القصار من فقر البيان المحض، وقد ظلم العربية رجال قبحوا السجع، وعدوه عيبًا فيها، وخلطوا الجميل المتفرد بالقبيح المرذول منه، يوضع عنوانًا لكتاب، أو دلالة على باب، أو حثوا في رسائل السياسة، أو ثرثرة في المقالات العلمية، فيا نشء العربية إن لغتكم لسرية، مثرية، ولن يضيرها عائب ينكر حلاوة الفواصل في الكتاب الكريم، ولا سجع الحمام فيا لحديث الشريف، ولا كل مأثور خالد من كلام السلف الصالح".
وشوقي هنا يبين عدة أمور: فهو شاعر، ولذلك يسهل عليه السجع كما تسهل القافية في الشعر، ويقرر أن هذا اللون من النثر يحل محل الشعر في موضوعه، وفي موسيقاه فيستخدم في الحكمة والمثل، والوصف والرسائل الأدبية الطويلة والقصيرة، وإذا كان تكلفه بين الناس، واستخدموه في المقالة السياسية والعلمية والاجتماعية، فإنهم لم يفرقوا بين النثر الأدبي وسواه، ويضرب شوقي مثلًا بحلاوة فواصل القرآن الكريم، والحديث الشريف برهانًا على أن السجع قد يكون مصدر جمال ولا شك، إذا تناولته يد صناع، وقلم بارع.
كتب شوقي عدة موضوعات بالنثر في أخريات كتابه، وإن كان يحن بين الفينة والفينة إلى السجع، على أن ما يعنينا هو اتساع أفق النثر وعمق فكرته، وتناوله موضوعات حية، نتيجة الثقافة القوية في العربية وفي الأدب الغربي معًا، ويهمنا كذلك أن الهوة في هذه الفترة أخذت تتسع بين الأسلوب الصحفي والأسلوب الأدبي، وبدأ كل منهما يتميز عن صاحبه.
وإذا كنا لم نوف هذا الكتاب حقه من الدرس والتحليل، فإن المقام يعجلنا عن ذلك، ولعل هذه الدراسة الواسعة تلح على من يدرس شوقي دراسة كاملة وافية، وبحسبنا هذا الإجمال، وتلك الأمثلة، أداء للغرض الذي ترمى إليه.