فالموضوع كما ترون يشتمل على فكرتين تناول كل فكرة، وعرضها في شتى الصور، فأمس يوم اقتطع من العمر، وهو أساس الغد، وكان لخيال شوقي الشاعر أثر في إيراد هذه الصور المتعددة للمعنى الواحد، وكلها صور رائعة الخيال، تزيد المعنى وضوحًا، والنفس أسى على أمس الدابر.
ولا يسعني هنا -والمقام ضيق- أن أتناول كل ما تعرض له شوقي في كتابه هذا، والذي يعنينا هو أنه تناول موضوعات تشغل الفكر الإنساني المثقف، واستخدم النثر في مقام الشعر، وكلف بالسجع أول الأمر ثم نراه يكاد يعدل عنه آخريات الكتاب، وإن لم تضعف ديباجته، أو يكبو خياله من ذلك قوله عن الجمال:
"جمعت الطبيعة عبقريتها فكانت الجمال، وكان أحسنه وأشرفه ما حل في الهيكل الآدمي، وجاور العقل الشريف، والنفس اللطيفة، والحياة الشاعرة. فالجمال البشري سيد الجمال كله، لا المثال البارع استطاع أن يخلعه على الدمى الحسان، ولا للنيرات الزهر في ليالي الصحراء ماله من لمحة وبهاء، ولا لبديع الزهر وغريبه في شباب الربيع ماله من بشاشة وطيب، وليس الجمال بلمحة العيون، ولا ببريق الثغور، ولا هيف القدود، ولا أسأله الخدود، ولا لؤلؤ الثنايا وراء عقيق الشفاه، ولكن شعاع علوي يبسطه الجميل البديع على بعض الهياكل البشرية يكسوها روعة، ويجعلها سحرًا، وفتنة للناس".
هل تشعر أنك فقدت شيئًا في أسلوب شوقي؟ هل لا يزال لأسلوبه رونقه وبهاؤه وطلاوته؟، أترى هذه القطعة أشد أسرًا، وأقوى جاذبية وجمالًا من نثره المسجوع؟
لعل شوقي لم يتعود الكتابة بالنثر المرسل، ومع كثرة تمرسه بالنثر المقفي، ولعله شعر بأنه ليس في أحسن حالاته، فحاول التجربة مرة ثانية وثالثة في الأمومة، والكاتب العمومي، والحياة وهم ولعب، وأخيرًا أخذ يذرف دمعة على السجع، ويدافع عنه حين افتقده في كتابته ولم يحسن الازدواج إلا قليلًا، ففقد ولا شك شيئًا من موسيقى نثره، فقال: