للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المعتدون علهيا من متانة التأليف، وحسن الصياغة وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه، أما أنت فقد وفيت من ذلك لا غاية لمزيد بعده، ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده، ولو كنت ممن يقول بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح، فظهرت لك اليوم في صورة أبدع، ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في التعريب سنة يعمل عليها من يحاوله بعد ظهور

كتابك، ويحملها الزمان إلى أبناء ما يستقبل منه، فتكون قد أحسنت إلى الأبناء، كما أجملت في الصنع مع الآباء، وحكمت للغة العربية ألا يدخلها بعد من معجمة سوى ما هو في الأسماء -أسماء الأماكن والأشخاص، لا أسماء المعاني والأجناس، ومثلي يعرف قدر الإحسان إذا عم، ويعلي مكان المعروف إذا شمل، ويتمثل في رأيه يقول الحكيم العربي:

ولو أني حبيت الخلد فردًا ... لما أحببت بالخلد انفرادا

فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا

فما أعجز قلمي عن الشكر لك، وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء ... إلخ".

وفي هذه الرسائلة يشير الأستاذ الإمام إلى ما كانت تعانيه اللغة على ألسنة الذين يتصدون للترجمة، حيث تلتوي العبارات بين أيديهم، وتغلبهم الأساليب الأعجمية على أمرهم، ويعجزون عن أداء كثير من المعاني لفقرهم في اللغة، ويضطرون إلى حشد كثير من الكلمات الأجنبية لجهلهم بنظائرها في العربية، وإذا أتيح لأحدهم أن يتخلص من كل ذلك، فقل أن يكون يراعه من القوة بحيث يضفي على أسلوبه ثوب الأديب، وتأتي جمله حسنة السبك، قوية الأداء، عليها من الجمال طلاوة كما فعل حافظ، ولقد صارت ترجمته هذه نموذجًا لبعض الأدباء من بعده من أمثال محمد السباعي، وأحمد حسن الزيات، ومحمد عوض، وطه حسين، كما تنبأ الشيخ الإمام.

وللشيخ محمد عبده مواقف رائعة في نهضة اللغة، والأساليب الصحيحة وبيناها في كتابنا "الأدب الحديث"!، والذي يعنينا هنا أنه حاول في أخريات حياته أن يتخلص من السجع، وأن يتوب عنه كما يذكر في رسالة كتبها إلى حفني ناصف:

تسجع لي في كتابتك، وتطمع أن أسجع لك في جوابك، كأنك لم تسمع أني تبت عن السجع، حتى ول ساق إليه الطبع، فماذا أصنع بك، وقد نقضت توبتي بأدبك؟ ".

وسنرى بعد قليل كيف اشتدت الحملة ضد السجع في أوائل القرن العشرين حتى من هؤلاء الذين برعوا فيه، وكيف أن السجع وجد من يدافع عنه ويحميه، ومن الأدباء الذين اشتهروا برسائلهم الأدبية في تلك الحقبة: حمزة فتح الله، وعبد الكريم سلمان، وأديب إسحاق، والشيخ أحمد مفتاح، ومحمد دياب، وحسن توفيق العدل، ومحمود أبو النصر، وحفني ناصف، وإبراهيم اليازجي، وفتحي زغلول، ولكل منهم شخصيته وتفكيره، وهم يختلفون كذلك في ثقافاتهم فمنهم اللغوى، ومنهم القانوني ومنهم الأديب، ومنهم العالم، وإن حاول كل منهم أن يصطنع الأسلوب الأدبي في رسائله.

<<  <   >  >>