ولندع وصف هذه الرحلة التي أخذت من الكتاب ما يقرب من خمسين صفحة مع شرحها، ولتنتقل إلى موضوع آخر من موضوعاته النثرية، وهو موضوع "العزلة" جاء في رسالة كتبها إلى صديق، وفي هذا الموضوع تتجلى نزعات إنسانية صادقة لدى البكري، ولفتات اشتراكية حادة لم تكن تنتظر من مثله، ولا من جيله وعصره.
يقول البكري:
"كتاب إلى السيد أيده الله، وكلأه ورعاه، وأن حل بقري السواد وريف البلاد، بعيد عن المدينة وما فيها من الشينة والزينة، في عزلة عن الناس بين سقبى وغراس، سليم الجسم من السقم والنفس من الألم، وأحميه من الأنام كالحمية من الطعام شفاء من كل داء، وخليق بمن ارتطم في المزدحم، أن يصاب ببعض الأوصاب".
وبعد أن وصف الريف المصري وصفًا جميلًا حقًا دل على دقة ملاحظة، ومحبة لما فيه من طبيعة وحيوان، وإن كان كعادته يكثر من التشابيه التي لا تزيدنا علمًا بالمشبه -يصف لنا كيف يقضي وقته في القراءة، ومن هذه النبذة نعرف مزاجه الفكري، ومن أين استمد ثروته الأدبية حيث يقول:
"وصحبي في هذه العزلة نفر من صياب الأقوام، ولباب الأنام، فمنهم أبو تمام، والحارث بن همام، وعروة بن الورد، وطرفة بن العبد، وكثيرًا ما ينشدنا أحمد بن سليمان باقعة معرة النعمان: