للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد أبدع المنفلوطي في وصف المأساة على عادته، واستخدام أروع أساليبه في إظهار الفجيعة مستعينًا بالتشبيه تارة، والسجع القليل أخرى، والألفاظ الموجبة، وتصوير جو البؤس والإملاق، والحزن والكآبة، والمرض والموت، واختار لقصته هذه اسمًا موحيًا بمضمونها وهو "غرفة الأحزان"، وقد تابع حديثه حتى وسد صديقه القبر بذلك الأسلوب الحزين، الذي برع فيه وارتفع به إلى الأسلوب الأدبي بخصائصه الفنية.

ولا نريد أن نتعرض لكل الموضوعات ذات الطابع الحزين، فهي كثيرة في النظرات، وهي سمة خمن سمات أدبة بعامة لرهافة في حسه، وعمق في عاطفته، وميل فطري إلى الحزن والتأثر بالنكبات "قد عاهدت الله قبل اليوم ألا أرى محزونًا حتى أقف أمامه، وقفة المساعد إن استطعت، أو الباكي إن عجزت".

وكان بطبعه عطوفًا على البائسين يرق لحالهم، ويرثي لبلواهم، وقد ذكر لنا أنه كا مغرمًا بالأدب الحزين الباكي: "كأني كنت أرى الدموع مظهر الرحمة في نفوس الباكين، فلما أحببت الرحمة أحببت الدموع لحبها، وقد سبق لنا الاستشهاد بتلك الكلمة، التي بين فيها أنه وجد بينه وبين أولئك البائسين شبهًا قويًا، فكأنما كان يبكي على نفسه، ولما تغير شأنه، وابتسمت له الدنيا، لم ينس ما لاقاه فيها من بؤس، أيام أن طلقت أمه، وتزوجت غير أبيه، وأيام أن كان يعيش في حجرة متواضعة، يعاني شظف العيش، وعنت الذين يحولون بينه وبين كتبه الأدبية، ويذيقونه الاضطهاد والعسف، حتى فر بنفسه منهم، ثم تخطف الموت فلذات أكباده الواحد تلو الآخر فزاده حزنًا على حزن.

وفوق كل ذلك تأثره بقراءته الرومانسية الغربية، والحزن سمة من سمات الرومانسية الفرنسية بخاصه، حتى عرف بداء العصر وقد وضحنا ذلك آنفًا، وقد وافق الأدب الرومانسي طبعه ومزاجه، ولهذا ترجم منه قصصه، وحذا حذوه في قصصه المؤلفة وفي مقالاته القصصية، وهو أدب مشحون بالعاطفة، والمنفلوطي كان سريع العبرة، شديد الحساسية، غزير العاطفة.

فلا نعجب بعد كل هذا إذا رأينا المنفلوطي يجيد في الموضوعات الحزينة، ويكون في أحسن حالاته الأدبية حين يتعرض لها، لولا بعض ما لا بسها من تهويل ومبالغة، ولعل ذلك من أثر اندفاعه في عاطفته إلى مداها، على أن هذا قد يغتفر في المقال الأدبي إذا لم يكن فيه إحالة أو تعسف.

هذا وكان مجتمعه الذي يعيش فيه يعاني أوصايا كثيرة خلقية واجتماعية، ورثها من عهود الاستعمار التركي والإنجليزي، ومن سوء تصرف الأسرة الحاكمة وحاشيتها، وعانى منها سواد الشعب الأمرين، والمنفلوطي كان يمت بأوثق الصلات إلى سواد الشعب هذا ويدرك ما يقاسيه، وما ينتابه من علل، فحاول جهد أن يشخص أدواءه، ويصف له دواءه على طريقته، وكثيرًا ما تلاقي وهو يشخص الداء بتلك الصور والمواقف البائسة الحزينة، فهاجت شجونه، واستدرت دمعه، وكان يحاول أن يبرزها مجسمة، في شيء من المبالغة حتى ينفذ بها إلى القلوب، فتنتفع بدوائه، وتستمع لندائه.

<<  <   >  >>