بما يرشح من إهابه جمر، أو عولج بمعانيه مريض، أو جبر بمبانيه مهيض لكان هو ذلك الكلام الذي يقود سامعيه من بني الآداب إلى السجود، ويجري في قلب داعيه من ذوي الألباب جرى الماء في العود".
لقد وضع نفسه في منزلة عالية، ولعله كان أحسن أهل جيله في العراق، وما علينا إلا أن نضرب مثلًا من هذا النثر لنتعرف على ما في ثنائه من حقيقة أو مبالغة، يقول في وصف القسطنطينية واصفًا ثغرها: "وأما الثغر، وما أدراك ما الثغر، فذاك الذي تنشق من حلاوة لمن محاسن ثناياه مرارة الخمر، وقد دلع لسانه بالافتخار، فجرى مطلق عنان الفخر في كل مضمار، وتلاسن البحران بلا مرا، فألقم البحر الأسود حجرًا بحر مرمرًا"، ولا أريد أن أمضي في بقية الوصف، فقد أسف فيه إسفافًا، وأتى بألفاظ بذيئة نابية لا تصدر عن أديب، وبحسبنا في هذه الجمل القصيرة ففيها من التكلف والركاكة، وضحولة المعنى ما يغني عن الوقوف لديها طويلًا، فهو حين ذكر الثغر تذكر ثغر الحبيب، وجعل للثغر الملح لمن وثنايا، ولها حلاوة، وللخمر مرارة تنشق حسدا، فأي تعسف وأي ذوق، ثم تمادى في الترشيح فجعل له لسانًا اندلع بالافتخار، وما أبشع هذا الاندلاع، ثم جعل هذا اللسان جوادًا مطلق العنان، الجواد يحتاج إلى مضمار، ثم انظر الجملة التالية وما فيها من ضرورات، وتقديم وتأخير حتى يأتي بسجعة سخيفة تنتهي ببحر مرمرا.
ولم يتغير هذا الأسلوب لدى ابنه السيد عبد الله الألوسي المتوفى سنة ١٨٧٤، فها هو ذا يصف ليلة مطيرة، ويستخدم ذلك السجع الثقيل والاستعارات المفتعلة، وألوان البديع الصارخة: "وحاك الدوى بمكوك الريح من سدى البخار ولحمته شققا سودًا، وصبغها الليل فكانت ظلمات بعضها فوق بعض، وطنبها خيمة خيمة على أكتاف العراق في الطول والعرض، واشتد الريح والظلام، وشرح جنى الليل يخوف صبى النهار كلما أحس منه بقيام ... " إلخ.
وعلى الرغم من أن الزمن قد أوغل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدت بوادر النهضة في كل من مصر والشام تؤتي ثمارها، ويتطور الفكر والخيال، ويتطور تبعًا لهما الأسلوب سواء كان تقليدًا مسجوعًا أو مرسلًا، فإن