للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وعلى هذا فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يُتوضأ به ويتيمم هو، إذا كان لا بد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه وحاز فضيلة الإيثار وفضيلة الطهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتابٌ ولا سنة، ولا مكارم أخلاق.

وعلى هذا، فإذا اشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه واستسلم للموت كان ذلك جائزًا، ولم يُقل إنه قاتل لنفسه، ولا أنه فعل محرمًا، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: ٩].

وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام، وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القرب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها، وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها، وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها، وبالله التوفيق).

ولكن ابن القيم في مدارج السالكين (١) كأنه مال إلى كلام الفقهاء في المنع، فقال: (وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله: فلا تؤثر به أحدًا، فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله، وأنت لا تعلم.

وتأمل أحوال أكثر الخلق في إيثارهم على الله من يضرهم إيثارهم له ولا ينفعهم، وأي جهالة وسفهٍ فوق هذا؟

ومن هنا تكلم الفقهاء في الإيثار بالقرب، وقالوا: إنه مكروه أو حرام؛ كمن يؤثر بالصف الأول غيره ويتأخر هو، أو يؤثره بقربه من الإمام يوم الجمعة، أو يؤثر غيره بالأذان والإقامة، أو يؤثره بعلم يَحرمه نفسه، ويرفعه عليه، فيفوز به دونه.


(١) ينظر: مدارج السالكين (٢/ ٢٨٤).

<<  <   >  >>