العبرة في الفصاحة والبلاغة ليست إلا بالنظم، دون الألفاظ التي هي مجرد خَدَمٍ للمعاني. ومن حيث رأى أن الإعجاز في نظم القرآن يُفهم بإدراك أسرار الفصاحة، فرغ في كتابه لمباحث بلاغية خالصة يجلو بها وجه الفصاحة. وفيما بين مبحث وآخر يقدم لمحات من البيان القرآني في سياق الاستشهاد أو التنظير.
والكتاب على هذا الوضع، من المصنفات البلاغية القيمة، ولعله من خير ما كُتبَ في قضية النظم، لكن اتصاله بالإعجاز غير مباشر، إذ ينظر في أساليب البلاغة العربية، وفي تقديره أنها الوسيلة إلى فهم الكتاب العربي المبين. قال يشرح وجه الإعجاز بالنظم:"إنا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سعوا كلاماً لم يسمعوا قط مثله، وأنهم قد رازوا أنفسهم فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه أو يدانيه أو يقع قريباً منه، لكان محالاً أن يَدَعوا معارضته وقد تُحدوا إليه وقرعوا فيه وطولبوا به. . .
"فخبرونا عنهم؟ عماذا عجزوا؟ أعن معان من دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول، أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإن قلتم عن الألفاظ، فماذا أعجزهم من اللفظ أم ما بهرهم منه؟ فقلنا: أعجزتم مزايا ظهرت لهم في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آية ومقاطعها، ومجارى ألفاظه ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة، وتنبيه وإعلام وتذكير وترغيب وترهيب، مع كل حجة برهانٌُ وصفة وتبيان، وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة وعشراً عشراً وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة ينبو بها مكانها، ولفظة تُنكر شأنها أو يُرى غيرها أصلح هناك أو أشبه أو أحرى وأخلق، بل وجدوا اتساقاً بهر العقول وأعجز الجمهور، ونظاماً والتئاماً وإتفاقاً وإحكاماً، لم يَدَع في نفس بليغ منهم ولو حَكَّ بيافوخه السماء، موضعَ طمع. حتى خرست الألسن عن أن تدعي وتقول، وخلدت القروم فلم تملك أن تصول. . . " - ٣٢
ثم لم يمض الجرجاني في الاحتجاج لهذا الوجه من الإعجاز تدبراً لأسرار النظم القرآني المعجز، بل قدر أن الدراية بذلك "لا تتأتى عن طريق حفظ متن الدليل